العنف ما بين الدين والإنسان (الجزء الأول: الأسباب)

كتب @hussein:

كثيرا ما نسمع مقولات من مثل “الدين أساس الشر في العالم”، “الدين أساس الحروب”، “الوسيلة الوحيدة لنعيش في سلام هي أن نتخلص من الأديان”. وتثار مثل هذه المقولات بشكل خاص في محيط العالم الإسلامي والعربي، لخصوصية تفصله عن باقي الأديان في العالم من آثار الحادي عشر من سبتمبر، إلى صعود تيارات سياسية متبنية المرجعية الدينية الإسلامية، إلى غير ذلك.

ولا شك أن هذا الادعاء يغري الشخص العادي الذي يسمعه لتصديقه، فالأدلة على ذلك جاهزة: الحروب الصليبية، الفتوحات الإسلامية، قضية فلسطين، حروب الطوائف الأوروبية، وغيرها. كل هذه معارك ومشاكل كان سببها، حسب معتنقي هذا الادعاء، الدين، والدين وحده.

في هذا المقال، سنفكك معا عناصر هذا الادعاء، ثم نحكم بناءا على قواعد التفكير السليم على مدى صحته وسلامة بنيته. بِيَدِ أنّ المنهجية المتبعة هنا ليست حصرا على هذا الموضوع وهذا الادعاء، بل يمكن أن تعمّم – بل يجب أن تعمّم – على غيرها من المواضيع الشائكة التي تنتشر على كل لسان…

المحور الأول: عن الأسباب

الارتباط والسببية

إذا كانت الإحصاءات تبين وجود ارتباطٍ ما بين أكل البوظة والغرق في البحر، فهل تسبب البوظة الغرق؟

ما علاقة البوظة بالعنف والدين؟! لنأخذ المثالين التاليين:

– وجد الباحثون أن أمراض المفاصل تزداد بازدياد أمراض التنفس.

– وجد الباحثون أن التحولات السلبية في الغلاف الجوي تزداد بازدياد غاز ثاني أكسيد الكربون في الجو.

هذه العلاقة (يزداد (ب) بازدياد (أ)) هي ما يعرف بالارتباط Correlation، أي ترافق أمرين معا احصائيا، فعند زيادة الأول يزاد الثاني على سبيل المثال. هذا المفهوم من أهم الأدوات احصائيا وحياتيا، نحن نقول: “الذي يدرس هو من ينجح” كإشارة لارتباط النجاح مع فعل الدراسة. نحن أيضا نقصد أن الدراسة شرط أو سبب للنجاح.

لكن، هل الارتباط يعني السببية دوما؟ أي إن كانت هناك علاقة ارتباط بين أمرين، هل هذا يعني بالضرورة أن أحدهما سببٌ للآخر؟

لنعد لمثال أمراض المفاصل. قد يدفعنا قراءة بحث موثق وعلمي عن ارتباط أمراض المفاصل بأمراض التنفس، إلى الاستنتاج بأن أمراض التنفس سببٌ لأمراض المفاصل، والقول مثلا أنه لنعالج آلام المفاصل، علينا اعطاء المريض دواءا لأمراض التنفس.

لكن الباحث المتمرس يعرف أن هذا الاستنتاج في الغالب خاطئ، لأننا تغافلنا عن البحث عن الكثير من العوامل الأخرى التي قد تكون تسبب الاثنين معا: على سبيل المثال، أمراض المفاصل وأمراض التنفس يزدادان معا عند كبار السن، إذا فكِبَرُ السن يسببهما معا. أي أنهما نتيجتان لنفس السبب.

لكن هناك أمور أخرى، مثل الارتباط بين غاز ثاني أكسيد الكربون وتحولات الغلاف الجوي، قد يصل العلماء إلى أن الأولى هي فعلا سببٌ للثانية. إذا للتخفيف من أضرار الغلاف الجوي علينا أن نخفف من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون.

أي أنه توجد حالات يرتبط فيهما عاملان معا، ويكون أحدهما سببا للآخر، وهناك حالات أخرى يرتبط فيهما عاملان معا، لكن لا تكون هناك علاقة سببية بينهما، فقد يكون ارتباط هذين الفعلين يرجع لعامل ثالث، للصدفة، أو لغير ذلك…

هناك خطأ منطقي معروف اسمه الخلط ما بين السببية والارتباط: وهو اعتبار وجود ارتباط بين أمرين أو ظاهرتين دليلا مباشرا وقاطعا على كون أحدهما سببا للآخر، دون النظر بشكل أعمق إلى العلاقة بينهما والاحتمالات والأدلة الأخرى، ودون فهم أن تلازم فعلين أو صفتين أو حدثين مع بعضهما البعض لا يعني بالضرورة كون أحدهما سببا للآخر.

(للمزيد عن مغالطة الخلط بين السببية والارتباط، ولفهم بعض الأمثلة التي طرحت، شاهد الفيديو التالي http://www.youtube.com/watch?v=mkYrqvvH9AE )

فلو فرضنا (جدلا) أن كل الحروب تاريخيا كانت من أناس متدينين أو يدعون أنهم يقومون بها بإسم الدين، أو أن استخدام خطاب الدين في حوادث العنف المختلفة يكثر في المجتمعات المتدينة، فهذا الارتباط لا يعني السببية. أي أن وجود المتدينين في الحروب لا يعني بالضرورة أن الحروب سببها المتدينون أو الدين.

لتوضيح الفكرة، فلنأخذ المثال التالي:

– كل الحروب قام بها بشر لديهم قدم (يد، عين، أنف … إلخ)، إذا القدم (يد، عين، أنف … إلخ) أساس الحروب وعلينا أن نتخلص منها لكي نعيش في سلام.

هذا المثال واضح التهافت، إذ أن وجود قلب أو قدم أو عين لدى كل من قام بالحروب لا يعني أن هذه الأمور هي سببُ تلك الحروب.

تاريخيا فإن أغلب البشر كانوا ينتمون لدين أو اعتقاد بطريقة أو بأخرى، وبالتالي فعندما نتحدث عن تحليل لعلاقة العنف والدين، فقط بالحكم على الارتباط الظاهري، فإن أصحاب هذا الادعاء يقعون في فخ الخلط ما بين السببية والارتباط.

أنواع الأسباب

قلنا أن ارتباط ظاهرتين لا يستلزم أن تكون إحداهما سببا للأخرى، لكن كونها لا تستلزم بالمطلق السببية، فإن هذا لا يعني نفي السببية، فمغالطة الخلط ما بين الارتباط والسببية تُطًبّق عند الحكم السطحي على الظواهر، ولكن البحث المعمق قد يبين أن السببية موجودة فعلا، أليس كذلك؟

إذاً كيف يمكننا الحكم على كون الدين سببًا للعنف من عدمه من غير الاعتماد على مجرد الارتباط – إن وجد هذا الارتباط؟

الجواب يستلزم تعريف السببية في البداية، إذ على الرغم من أن مصطلحات (السبب والنتيجة) تبدو بديهية للوهلة الأولى ولذلك يستخدمها الجميع، إلا أنها مفاهيم عقلية عميقة لها مباحث كبيرة في المنطق والفلسفة.

تنقسم الأسباب إلى ثلاثة أنواع رئيسية:

الشرط الضروري: Necessary Condition

السبب الكافي: Sufficient Cause

العامل المساعد: Supporting or Contributing Factor

أما الشرط الضروري، فهو الذي لا يمكن حصول النتيجة إلا بوجوده. حدوث ( ب) يستلزم بالضرورة حدوث أو وجود (أ) قبله. كمثال مبسط على ذلك: الحياة على الأرض شرطها الضروري وجود الماء.

أما السبب الكافي، فهو العامل الذي لوحده دون أي عامل آخر يسبب حدوث النتيجة. كمثال مبسطٍ أيضا: فوجود الحياة النباتية هو سببٌ كافٍ لإنتاج الأوكسجين، لكن الماء ليس سببا كافيا للحياة لأن الماء قد يوجد دون حياة.

(الأمثلة السابقة مبسطة جدا ولا تتناول تعقيدات كثيرة تطرح في مباحث المنطق وفلسفة العقل والعلوم، لكنها تفي بالغرض هنا).

أما العامل المساعد وهو النوع الأخير، فهو نوعٌ من الأسباب الذي قد يكون ليس بسبَبٍ كاف، ولا شرطًا ضروريًا، لكن وجوده يزيد أو ينقص أو يغيّر من كمية أو شدة أو صفات النتيجة. مثال: العوامل المحفزة في الكيمياء، قد تتم العملية الكيميائية من غيرها لكن وجودها يسرّع العملية أو يزيد حدة التفاعل أو خصائص المادة الناتجة .. إلخ.

إثبات أن ظاهرة ما سبب لرد فعل آخر هو أمر صعب بل قد يكون مستحيلا (وهي إحدى معضلات فلسفة العقل والعلوم)، لكن نفي بعضها قد يكون سهلا: الشرط الضروري يكفيك أن تجد حالة لا يتوفر فيها المسبب الضروري عند حدوث النتيجة لتنفي كونها شرطا ضروريا. السبب الكافي يكفيك فيه أن تجد حالة يكون السبب موجودا فيها دون وجود النتيجة.

حسنا، عندما نتحدث عن ظواهر إنسانية أو اجتماعية، وعلاقتها بين بعضها، عن أي أنواع الأسباب نتحدث؟ الجواب أن الخلط يبدأ من هنا، إذ أن مفهوم السببية يُستخدم بمعانيه الثلاثة بشكل عشوائي، الأمر الذي يجعل النقاش سوفسطائيا (أي فيه خلل) بين الأطراف. على سبيل المثال: عندما يطرح الطرف (أ) أن السلوك (س – شرب المسكرات مثلا – ) سلوكٌ يسبب أثرا سلبيا (ص – حوادث السير أو الجرائم مثلا-) في المجتمع، يرد (ب) أن (ص) يحدث في حالات لا يوجد بها (س) (حوادث السير والجرائم تحدث لمن لا يشرب المسكرات)، أو أن (س) قد يحدث دون (ص) (قد يشرب شخص المسكرات دون أن يتسبب بحوادث سير أو جرائم) وبالتالي فطرح (أ) خاطئ. وهذه مغالطة عندما يكون المقصود بالسبب هنا كونه عاملا مؤثرا وليس كونه شرطا ضروريا أو سببا كافيا.

وهذا ينطبق على موضوع الدين والعنف، فإثبات أن الدين ليس شرطا ضروريا ولا سببا كافيا للعنف أمر سهل جدا. هل هناك عنف أو حروب أو دمار حصل لم يكن أطرافه أصحاب دين أو الدعوة الظاهرة فيه دعوة دينية؟ نعم: إذا فليس شرطا ضروريا.

هل كانت هناك حالات وُجدَ فيها الدين والتدين ولم يحصل عنف أو حرب، نعم: إذا الدين ليس سببا كافيا للعنف.

إذًا يتبقى (العامل المساعد): هل يزيد العنف والدمار والحروب بوجود الدين، أم ينقص، أم لا يتغير؟

وإذا كان الدين ليس عاملا مساعدا، أو إذا كان عاملا مثبطا على الحقيقة، فما هو السبب المشترك للعنف والحروب عبر التاريخ؟

ملخص المحور الأول:

االارتباط لا يعني السببية.

الدين ليس شرطا ضروريا للعنف.

الدين ليس سببا كافيا للعنف.

هل الدين عاملٌ مساعدٌ للعنف؟

إن كان الدين ليس بسببٍ للحروب، فما هو السبب الحقيقي المشترك البديل؟

المحور الثاني: هل الدين عاملٌ مساعدٌ للعنف؟

حروب اللادينيين

من أسس اختبار النظريات التي تحدد السبب لظاهرة معينة، اختبار السبب وعكسه، أي إن كان هذا الأمر سببا (بتعريف الشرط الضروري والسبب الكافي) لهذه الظاهرة، فستوجد الظاهرة متى وُجِد هذا السبب، وستختفي الظاهرة متى نزعنا هذا السبب. فإذا كان الدين حقا سببا للحروب والعنف، فهذا يعني بطريقة بدهية أنه في حال عدم وجود الدين ستختفي الحروب والعنف. فهل هذا الأمر حقيقي؟ الإجابة التي ذكرناها سابقا هي لا، ويمكن لأي شخص مهما كانت معلوماته التاريخية ضئيلة أن يتأكد منها باستقراء سريع للحروب والصراعات عبر التاريخ.

أما لاختبار كون الدين عاملا مساعدا أم لا، فيحتاج ذلك لجهد أكبر قليلا، ولتأصيل بعض التعريفات والأفكار التي يمكن من خلالها الوصول لأفضل استقراءٍ ممكن.

أول هذه التأصيلات: النتيجة المتوقعة. قلنا إن كان الدين عاملا مساعدا للعنف، فهذا يعني أن العنف يزداد بوجود الدين. لاختبار هذا علينا أن نحدد ماذا يعني أن العنف يزداد، وأعتقد أنه يمكن الاتفاق على كون المعيار هنا: أن حجم العنف وعدد من يصيبه ونتائجه من دمار وقتل وقتلى يزداد.

النقطة الثانية تحديد ماذا نعني بالدين المسبب للعنف. معتنقوا أطروحة العنف الديني يقدمون خطابين في تعريف الدين هنا:

1- أي دين، أي أيُّ اعتقادٍ بسلطة متجاوزة للطبيعة ومرجعية إلهية من أي نوع. وهذه الدعوى يمكن اختبارها بالبحث عن نقيضها أي حالات العنف التي نشأت إما من أطراف ملحدة، علمانية، أو لأسباب مادية صرفة.

2- الدين الذي يدعوا في نصوصه لأي عنف أو قتال بغض النظر عن تبريره وشروطه. وهذا الإدعاء يمكن اختباره بالبحث عن حالات العنف التي نشأت من أديان تدعوا للسلام وتنبذ العنف بشكل كامل، ما تعرف بالديانات المسالمة السلبية Pacifist Religions.

إن كان وجود حالات العنف والقتال بشكل عام، وشدة العنف والقتال وعظم الدمار الناتج عنهما بشكل خاص، أكبر في الحالات المعاكسة لتعريف الدين (أي في حالات الحروب اللادينية أو حروب الأديان المسالمة السلبية)، أو على الأقل مساوية لها أو قريبة منها، فإن هذا وحسب مفهوم الاستدلال الاحصائي (Statistical Significance) يجعل الادعاء بكون الدين عاملا مساعدا للحروب والعنف إدعاءًا لا دليل عليه.

أكبر السفاحين على مر العصور

هناك اختلاف في المصادر التاريخية على ترتيب أكبر السفاحين على مر العصور(مرجع 1)، لكن هنالك العديد من الأسماء المتفق عليها ومنها:

– ماو تسي دونج (الصين) (مسؤول عن قتل أكثر من 70 مليون شخص)

– جوزف ستالين (الإتحاد السوفيتي) (مسؤول عن قتل أكثر من 20 مليون شخص)

– أدولف هتلر (ألمانيا النازية) (مسؤول عن قتل أكثر من 15 مليون شخص)

– هيديكي توجو (اليابان) (مسؤول عن قتل أكثر من 8 مليون شخص)

– جنكيز خان (منغوليا) (مسؤول عن قتل عشرات الملايين) (مرجع 2)

وغيرهم كثير.

إذا نظرنا إلى القائمة السابقة والتي هي عبارة عن عيّنَةٍ فقط، سنجد أن أغلب أكبر السفاحين قتلا عبر العصور كانوا عَلمَانيين، لادينيين، ملحدين، أو حتى متبنين لأيدولوجيات أو منظومات معادية للدين. ماو تسي دونج وستالين كانا شيوعيين معاديين للدين وللمؤسسات الدينية، وجزءٌ كبير من عمليات الإبادة الذين قاموا بها كانت لاستئصال الدين من مجتمعاتهم، ومثل ذلك هتلر وإن أتى من خلفية مسيحية إلا أن النازية كانت فلسفة مادية بحتة. جنكيز خان كانت لديه ديانة وثنية، إلا أن طبيعة حياته وتوسعه الإمبراطوري كان لادينيا، فقد كان يدمّر ويقتل من يغزوهم بغض النظر عن الدين، ولم يسع لفرض مبادئ دينية في حروبه أو في البلاد التي ضمها لملكه.

تستمر القائمة لتتضمن أنظمة ديكتاتورية في الشرق والغرب، قد يكون من بينها أفراد ادعوا انتماءهم لدين ما، لكن العامل المشترك بينهم هو القتل والدمار لأسباب ديكتاتورية أو مادية مجردة…

أكبر النزاعات عبر التاريخ

الحرب العالمية الأولى راح ضحيتها أكثر من 15 مليون شخص، والثانية راح ضحيتها أكثر من 65 مليون شخص، حرب الثلاث ممالك في الصين راح ضحيتها أكثر من 36 مليون شخص، المغول قتلوا أكثر من 30 مليون شخص، الثورة الروسية أفنت أكثر من 5 ملايين شخص، وغيرها الكثير (مرجع 3).

هذه الحروب وغيرها حصدت الملايين من البشر، وجزءٌ كبيرٌ من أكبر الحروب عبر التاريخ حصل في الفترات التي لم تكن تتوفر فيها أسلحة الدمار المتوفرة حاليا، أي أن مستوى القتل المباشر فيه عظيم جدا. عند قراءة أسباب إندلاع أكبر الحروب دمارا نجد أنها أسباب عَلمَانية بحتة: صراع حول سلطة، موارد، أسباب سياسية … إلخ. الحرب العالمية الأولى نتجت عن مزيج من الأسباب الاقتصادية وتزايد الصراعات القومية التي أدت لاغتيار دوك أوستريا (فرانز فرناندياد) على يد قومي صربي (مرجع 3-أ)، حرب الممالك الثلاث في الصين كان بسبب الصراع على السلطة بعد موت إمبراطور سلالة هان (مرجع 3-ب).

أي أن الأسباب المُصَرّحة لكثير من أكبر المآسي عبر التاريخ لم يكن لها علاقة بالدين على الإطلاق.

الديانات المسالمة والعنف

في الثقافة الغربية السائدة، تعتبر البوذية أكثر الديانات بُعدًا عن العنف على الإطلاق، فهي تتربع على جُملة الديانات المسالمة السلبية، التي – في التصور الشائع – تنبذ العنف والقتل حتى للدفاع عن النفس.

بالتالي، إنّ الافتراض أن الحروب الدينية تنتج بشكل أساسي من خطاب العنف والقتل بأي شكل كان في نصوص تلك الديانات، فإن المنطق يقتضي أن تكون الديانات التي تنبذ العنف خارج دائرة العنف عبر التاريخ.

لكن الحقيقة غير ذلك إطلاقا.

إن الأبحاث التي تحاول أن تحصي القتل والدمار الحاصل عبر التاريخ، تضع البوذية في المراتب الأولى للاعتقادات التي شاركت في أكبر الحروب ووقائع القتل عبر التاريخ – أكثر من 87 مليون قتيل في حروب البوذيين- (مرجع 4)، بل وبعضها قد يعطيها المرتبة الأولى. فالحروب ووقائع العنف التي حدثت عبر التاريخ والتي شارك فيها بوذيون، قادها بوذيون أو بررها رهبان وقادة دينيون بوذيون كثيرةٌ جدا وموثقة. الملك الهندي أشوكا الذي أعلن أنه ينتهج نهج بوذا السلمي قام بمذابح ضد من عارضوه أو عارضوا البوذية (مرجع 5)، اضطهاد الأقلية المسلمة في مينامار من قتل وحرق لمساجد واجبار على التحول للبوذية (مرجع 6-7)، وفي سري لانكا (مرجع 8) وتايلاندا وغيرها من الدول التي تنتشر فيها البوذية. أيضا هناك ما يعرف بالمحاربين الرهبان (السوهيي Sohei) والذين كانوا جزءا أساسيا في كثير من الصراعات في اليابان (مرجع 9)، بالإضافة إلى دعم القادة والرهبان والمعابد البوذية لأفعال اليابان الدموية في الحرب العالمية الثانية، والتي يُقَدّر القتل والدمار والاعتداء الناتج عنها بضعف ما قام به النازيون (مرجع 10-11). هذا بالاضافة إلى أن البوذية هي الديانة السائدة في الصين وبالتالي كان لها ولمعتنقيها ورهبانها دور بارز في صراعات الممالك والسلالات عبر تاريخها.

هذه الأمثلة ليس المقصود منها الحكم العام على البوذية بالتأكيد ولا على كل معتنقيها، لكن تهدف لتوضيح الخلل في تصور العلاقة بين الديانات وما يُسَوّق لها من جهة، والخلل في تصور العلاقة ما بين نصوص الدين وبين العنف من جهة أخرى.

ملخص المحور الثاني:

إذا فالاستقراء العام لأحداث العنف عبر التاريخ يوضّح أن الدليل ينفي ادعاء كون الأديان بشكل عام، أو الأديان التي تسمح بالحرب بشكل خاص، عاملا مساعدا في زيادة العنف. كون أكبر الحروب حدثت لأسباب عَلمانية مادية، وكذلك توجّه أكبر قادة القتل عبر التاريخ (أو على الأقل نسبة كبيرة منهم إن كنت تريد دراسةً أكثر دقة لاحصائيات الدمار عبر التاريخ)، فإنه دليل على بطلان ادعاء الربط بين الدين والحروب عبر التاريخ. وكون أكثر الديانات نبذا للعنف شاركت في جزء كبيرٍ من الحروب ووقائع العنف، دليلٌ على بطلان الربط ما بين نص الدين الذي يسمح بالحرب وبين العنف بشكل مطلق.

مع التأكيد مرةً أخرى أن الهدف من هذا الجزء ليس الخروج بدراسةٍ معمقةٍ عن أي الاعتقادات والأيدولوجيات أكثر ارتباطا بالعنف، فهذا خارج نطاق وأهداف المقال، لكن هذه الشواهد يجب أن تشير إلى نفي ادعاء كون الدين عاملا مساعدا للعنف.

إن استقراء أحداث العنف عبر التاريخ يبين أن الحروب والعنف هي ظواهر موجودة بشكل أو بآخر في كل أنواع الأيدولوجيات ومنظومات التفكير، وبشكل أدق فهي ظواهر مرتبطة بالإنسان بشكل عام.

ملخص وخاتمة الجزء الأول

فكّكّنا في هذا المقال بنية الإدعاء القائل بأن الدين سببٌ للحروب، ورأينا أنه باختبار هذا الإدعاء بالنظر إلى تعريف الأسباب وأنواعها، فإننا يمكن أن نصل بوضوح إلى بطلانه من ناحية عقليةٍ صرفة.

لكن يبقى السؤال: إن كان التحليل العقلي لظواهر الحروب والعنف بشكل عام ينفي ارتباطها بالدين كسبب، فإذا ما هو تفسير كون خطاب معتنقي الأديان الذين يشاركون في وقائع العنف معتمدا على الدين؟ لماذا يستمدون من أفكار ونصوص دينهم ما يبررون به أفعالهم؟ وهل تبريرهم الظاهري لأفعالهم باستخدام الدين يستلزم بالضرورة كون هذا التبرير هو السبب الحقيقي لأفعالهم؟ وإن كان لا، فما هو السبب الحقيقي؟ هل يمكن أن يكون هناك ارتباط فعلي سلبا أو إيجابا لبعض الأديان مع أنواع معينة أو حالات محددة من العنف؟ وهل كل حالات العنف منبوذة أو غير مبررة على الإطلاق؟ وما الدور الحقيقي للدين بشكل عام، وللدين الإسلامي بشكل خاص؟

هذا ما سنتحدث عنه بتفصيل في الجزء الثاني إن شاء الله.

المراجع

المنشورات: 1

المشاركون: 1

اقرأ كامل الموضوع