مقدمة الى علم النفس الإجتماعي

كتب @wajd:

من المعروف أن علم النفس يهتم عادة بدراسة النفسية الفردية ومشاكلها في فترة الطفولة والمراهقة خصوصاً.
وعلم التحليل النفسي الذي أسسه فرويد قائم على استبطان الذات الفردية لا الجماعية من أجل تشخيص عقدها النفسية التي قد تكون ابتليت بها في طفولتها الأولى تمهيدا لتحليلها ثم لعلاجها إذا أمكن ذلك. ونحن نعلم مدى تعقيد مصطلحات علم النفس والتحليل النفسي ومدى تشعب مدارسه واتجاهاته وفروعه. ولكن يوجد هناك علم آخر يستخدم مصطلحات علم النفس بطريقة أخرى: إنه علم النفس الاجتماعي. وهو غير معروف كثيرا لدينا على الرغم من أنه أصبح أحد العلوم الإنسانية الأساسية: كعلم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم الأنتربولوجيا (أي الإنسان)، وعلم الإتنولوجيا (أي الإناسة أو الشعوب)، وعلم الألسنيات، وعلم الاقتصاد السياسي، وعلم التاريخ، إلخ. وهذا العلم متطور جدا في الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية. والواقع أن مؤسسيه الأوائل هم الفرنسيون وغوستاف لوبون بالذات، ولكنهم أهملوه فيما بعد وتأخروا عن ركب البحث في هذا المجال كثيرا. وهدفه دراسة الصراع الناشب بين الفرد والمجتمع كمرحلة أولى، أي مدى انسجام الفرد اجتماعيا أو شذوذه عن خط المجتمع. ولكن العلم يتجاوز هذه المسألة فيما بعد لكي يدرس سلوك المجموعات في المجتمع وليس الأفراد فقط. نقصد الفئات الاجتماعية، أو الطبقات، أو الأقليات، أو الطوائف الدينية. إلخ… والواقع أن هناك تكاملا بين العلمين وليس تناقضا: فعلم النفس الفردي يكمله علم النفس الاجتماعي أو الجماعي. فمن الصعب، إن لم يكن من المستحيل، عزل السلوك الفردي عن الوسط الاجتماعي- الثقافي المحيط به. كما أنه من غير الدقيق أن نحرم الذات الفردية من نواياها الخاصة ومشاعرها الذاتية. فكلا الجانبين في حالة تداخل وتفاعل، أو صدام وتنافر.

ولكن الشيء المعروف والمتفق عليه أيضا من قبل كل علماء النفس- بمن فيهم فرويد- أن الفرد ما إن ينخرط في جمهور محدد حتى يتخذ سمات خاصة ما كانت موجودة فيه سابقا. أو قل إنها كانت موجودة ولكنه لم يكن يجرؤ على البوح بها أو التعبير عنها بمثل هذه الصراحة والقوة. لهذا السبب يمكن القول بأن علم النفس المطبق على الجماعات- أو على الجماهير- يختلف من حيث المنهج والنتائج عن علم النفس الفردي. وبالتالي فله خصوصيته المشروعة. ليس غريبا – والحالة هذه – أن يكون قد تشكل على هيئة علم متمايز يحتل أهمية كبيرة في ساحة العلوم الإنسانية الحديثة.

بالطبع فإن لعلم النفس الاجتماعي تاريخا طويلا، ويمكننا أن نعود به إلى أقدم الفلاسفة والعصور كأفلاطون وأرسطو مرورا بالمفكر العربي ابن خلدون الذي درس في القرن الرابع عشر مسألة انحطاط الدولة الإسلامية في إسبانيا. ومن المعروف أنه كان تلميذا لفلسفة أرسطو من خلال ابن رشد. وقد حاول استخلاص القوانين العامة التي تتحكم بتطور الجماعات البشرية وانحطاطها عن طريق أخذ العوامل الاقتصادية والنفسية (كمسألة العصبية) بعين الاعتبار. ولكن هذه التأملات تبقى بدائية وبعيدة جدا بطبيعة الحال عن مناهج علم النفس الاجتماعي الحديث ووسائله في العمل. ويمكن أن نذكر بالطبع كرواد بعيدين لهذا العلم أسماء العديد من الفلاسفة الأوروبيين الذين تتابعوا من عصر النهضة وحتى اليوم كهوبز (1588-1679)، وجان جاك روسو (1712-1778)، وفورييه (1792- 1837)، وأوغست كونت مؤسس علم الاجتماع (1798- 1857).

ولكن كان ينبغي أن ننتظر مجيء القرن العشرين لكي يتأسس علم النفس الاجتماعي على أسس علمية راسخة. وينبغي التفريق هنا قليلا بين علم النفس الاجتماعي وعلم النفس الجماعي، Psychologie sociale , Psychologie collective . فالثاني يمكن اعتباره فرعا من فروع الأول. ذلك أن علم النفس الاجتماعي يدرس، كما قلنا سابقا، العلاقة بين الفرد والمجتمع. ثم عمليات دمج الإنسان في المجتمع أو تحويله إلي كائن اجتماعي. إنه يقوم بالدراسة العلمية للفرد بصفته إنسانا متأثرا بأفراد آخرين وبالمجتمع ككل. وبالتالي فهو يدرس كل المشاكل المتعلقة بالتربية والتثاقف والوسط الاجتماعي الثقافي والتمرين الاجتماعي وتأثيره على الدائرة العاطفية والسلوكية للفرد. وفيها نجد مشاكل البلورة الاجتماعية – الثقافية للشخصية (شخصية الفرد) مع كل المفاهيم التي تتضمنها : كمفهوم الدور الذي يلعبه الفرد، ومكانته، ومعايير السلوك الطبيعية أو الشاذة ثم علاقات الأشخاص ببعضهم البعض مع كل عمليات التفاعل والتواصل.

ووسائل العمل التي يستخدمها علم النفس الاجتماعي هي: الروائز الخاصة بعلم المقاييس النفسية (دراسة درجة الذكاء مثلا)، والاستفتاء، والمقابلات، والتحريات الميدانية، والتجارب المخبرية . وفي حوالي عام (1940) كانت تتنازعه ثلاثة تيارات أساسية هي التيار السلوكي (behavioriste) أو التجريبي من حيث المنهج، التيار التحليلي النفسي (أو العيادي الطبي)، والتيار الثقافي المعتمد على علم الإناسة (الإتنولوجيا).

ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم كثرت الدراسات الميدانية والمخبرية في مجال علم النفس الاجتماعي واتخذت أهمية قصوى، نظرية وتطبيقية، في العالم الأنغلوساكسوني. ثم حاولت فرنسا مؤخرا اللحاق بالركب وتدارك ما فات من خلال بعض البحوث الموفقة التي جرت طيلة العشرين سنة الماضية في بعض مراكز البحوث. وتوزعت الاهتمامات بشكل أساسي على المحورين التاليين:

1. مجموعة البحوث المتمحورة حول مسألة تكوين الشخصية ودمجها في الوسط الاجتماعي. وقد استخدمت مكتسبات علم الإناسة والتحليل النفسي ونظريات التدرب أو التمرين. وهذه المدرسة وريثة عالمة الأنتربولوجيا الأمريكية مرغريت ميد (Margaret Mead) إلى حد كبير.

2. مجموعة بحوث متمحورة حول دراسة الخلافات والتمايزات الموجودة بين الشعوب والأجناس المختلفة. ومنها بحوث أوتو كلينبيرج الخاصة بدراسة الطبقات الاجتماعية والفئات العرقية والقومية. وقد ابتدأت هذه البحوث في الولايات المتحدة، وهي متواصلة في فرنسا حاليا في رحاب المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. وأوتو كلينبيرج هو الذي كتب مقدمة الكتاب الذي ترجمناه هنا “سيكولوجية الجماهير”. أو “نفسية الجماهير”.

أما علم النفس الجماعي ( La Psychologie collective ) فهو ليس إلا الفرع الأخير من فروع علم النفس الاجتماعي، وكثيرا ما يدرس كآخر فصل من فصوله، وكأنه شيء مهمل أو ثانوي. ولكن يبدو من الصعب في عصرنا هذا إهمال مثل هذا العلم الخطير حيث نجد أن كل شيء يعبر عن نفسه بواسطة الكمية والعدد (كالاقتصاد، والدعاية، والإعلان، والأيديولوجيات السياسية أو الحزبية أو النقابية أو الدينية، ثم الاضطرابات الاجتماعية التي تقوم بها الجماهير والاضطرابات العمالية أو الطلابية، والثورات، إلخ…). كل هذه الظواهر تندرج تحت إطار علم النفس الجماعي، أو علم نفسية الجماهير وبالتالي فمن الصعب إهمالها أو استبعادها من ساحة الدراسة العلمي . نقول ذلك وخصوصا أن علم النفس الجماعي سابق من حيث المنشأ الزمني على علم النفس الاجتماعي، فهو قد نشأ في القرن التاسع عشر على يد بعض الباحثين الإيطاليين قبل أن يتبلور بشكل علمي على يد غوستاف لوبون. يضاف إلى ذلك أن علم النفس الجماعي أو الجماهيري كان أول من اهتم بمسألة هامة جدا : هي مسألة تلك الجاذبية الساحرة التي يمارسها بعض القادة أو الديكتاتوريين على الجماهير والشعوب. وعلم النفس الجماعي يفيدنا ويضيء عقولنا عندما يشرح لنا جذور تصرفاتنا العمياء والأسباب التي تدفعنا للإنخراط في جمهور ما والتحمس أشد الحماسة للزعيم، فلا نعي ما فعلناه إلا بعد أن نستفيق من الغيبوبة. وربما جعلنا ذلك أكثر حيطة وحذرا في “الإنبطاح” أمام زعيم جديد قد يظهر.

  • _______________________________________________
    بقلم : هاشم صالح . كتاب سيكولوجيــة الجماهيــر/ ترجمة و تقديم هاشم صالح ، دار الساقي – 1991

المنشورات: 1

المشاركون: 1

اقرأ كامل الموضوع