جهاز المناعة والأمن الداخليّ: قياسٌ تمثيليّ

كتب @duhman:

(ملاحظة: التشبيه المستخدم في المقال من محض الخيال، وأي تشابه بينه وبين الواقع هو محض صدفة “مقصودة”)

لم يكن علم المناعة يوماً موضوعي المفضّل، لكنّني مذ درست عنه في مرحلة الثانوية وأنا أستمتع بمحاولة تشبيهه بأجهزة الداخلية والجيش في أيّ دولة محاولاً بذلك أن أتجاوز تعقيداتها ومسمّيتها الّتي لا تنتهي. وكلّما تعلّمت أكثر عن مناعة الإنسان ازداد عجبي كيف أنّ سنن الكون متشابهة والقياس بيّن.

سأحاول أن أعطي صورة مختصرة عن هذا النظام المعقّد من خلال تمثيله بأجهزة الدفاع وأمن الدولة. جهاز المناعة هو نظام بيولوجيّ خلويّ وظيفيّ في جسم الكائن الحي، يحمي من الاعتلالات الصحية والتهديدات الخارجية ويحافظ على أمن واستقرار الجسم عن طريق ملاحقة وقتل الأجسام الممرضة والخلايا السرطانية المدسوسة. يُصنِّف جهاز المناعة الخارجين عن قانون الجسم إلى عدة تصنيفات: كالخلايا الّتي غُسلت أدمغتها بالفايروسات، والكائنات المؤذية كالباكتيريا والفطريات، والكائنات الطفيليّة (بضمّ الطاء لا بفتحها) كالأوليات والديدان، والمُحسّسات المشتبه بهم، والخلايا السرطانيّة الانقلابيّة، إضافة إلى كلّ جسم غريب لا ينتمي لثقافة وتقاليد هذا الجسم. ومن الضروري أن تميّز قوات المناعة العامّة بين الخلايا الصالحة الوطنية والخلايا الدخيلة والمتطفلة، فضلا عن الخلايا الّتي لا تريد لجسمها الأمن والاستقرار.

يُقسم جهاز المناعة إلى إدارتين رئيسيّتين: الأولى هي إدارة المناعة الطبيعيّة، وهي الإدارة العامّة وخطّ الدفاع الأول؛ مسؤولة عن ضبط الوضع العام والتدخل السريع، وسلطاتها محدودة، وتضم إدارة الحدود الجلديّة والحواجز المخاطيّة ونقاط التفتيش الدمعيّة، كما تضم أيضًا جهاز الأمن العامّ المكوّن من الخلايا الأكولة المحبّبة والكبيرة (لأنها تأكل المجرمين أكلًا وتنهش لحومهم نهشًا) وأقسامًا أخرى كوحدة الخلايا القاتلة ودوائر البحث العُصاريّ والحامضيّ والقاعديّ والاستخبارات الشجريّة ونظام الحماية المتمّم.

أمّا الإدارة الأخرى فهي إدارة المناعة المكتسبة، وهذه الإدارة لها سلطات واسعة وذات فعالية كبيرة واختصاصية عالية، ومكونة من جهازين أساسيين هما القوّة المضادّة التنفيذيّة (اللّيمفاويّات البائيّة أو B-cells) والجهاز المناعيّ الخلويّ (اللّيمفاويّات التائيّة أو T-Cells ) الّذي يُمثل الإدارة العليا في وزارة الداخليّة الجسديّة، ولهذا الجهاز عدّة فروع ودوائر. مهمة إدارة المناعة المكتسبة هي ملاحقة المجرمين قضائياً وتنفيذ الأحكام عليهم، إضافة إلى الاحتفاظ بأرشيف يحتوي أسماء المجرمين وأصحاب السوابق والتّهم الموجهة لهم لتتمّ مراقبتهم وملاحقتهم في حال تمّ اعتراضهم في ظروف مشبوهة (لأن الأسى ما بينتسى!).

تتخرج الخلايا اللّيمفاويّة في كلّيات نخاع العظم، وتظلّ الخلايا البائيّة هناك لفترة أطول قليلاّ لتتلقى التدريبات اللازمة، أمّا الخلايا التائيّة فتحتاج إلى الاختصاص، فتتوجه بعد تخرجها إلى أكاديميّة الغدّة الزعتريّة عند القلب لتكمل دراساتها العليا هناك. وسأركّز حديثي هنا عن هذه الخلايا التائيّة.

النظام العامّ في الغدّة الزعتريّة هو تصفية الخلايا التائية بحيث تتقدم بامتحان قبول أوليّ ليتمّ اختيار الخلايا القادرة على القيام بوظيفتها والحاصلة على الخبرة الكافية لتمييز خلايا الجسم والتعامل معها (Positive Selection). وقبل التخرّج، يتقدم الطلبة…أقصد الخلايا…للامتحان الشامل لقياس مدى تعاملهم مع خلايا الوطن…أقصد الجسم… وقيادتها للخلايا البائيّة باحترافيّة ونجاعة، بحيث يتمّ رفض أيّة خليّة تتعامل بتعسّف أو عنجهيّة مع خلايا الجسم فتُستنثنى (Negative Selection) مخافة حصول مناعة ذاتيّة (Autoimmunity). للأسف، لا تختلف الغدّة الزعترية كثيرًا عن نظمنا التعليميّة، فالواسطة والرشوة قد تسمحان أحياناً لبعض الخلايا العنيفة أو الفاسدة بالتخرج من أكاديميتها والحصول على مناصب عليا في جهاز المناعة.

من الصعب تمييز الخلايا التائيّة عن بعضها لأنها لا تملك زيِّاً خاصّاً بكل فرقة منها، إلّا أنّ لكلّ فرقة وظيفة محددة. هناك 4 فرق رئيسيّة تابعة لفرع (CD4) وهي: الفرقة التائيّة المساعدِة الأولى “Th1” (إدارة الأزمات الالتهابية)، والفرقة التائيّة المساعِدة الثانية “Th2” (حلّ الأزمات الالتهابيّة، والتخلص من الخلايا الطُفيلية -بضم الطاء أيضًا لا بفتحها-، وإدارة قوّات اللّيمفاويّات البائيّة)، وقوّات الوحدة 17 “Th17” (وحدة مساندة للفرقة الثانية في حل الأزمات ومكافحة الشغَب)، والفرقة الرابعة والأهم هي الإدارة التنظيميّة “T-regs” ولها سلطات واسعة على جهاز المناعة، وسأتكلم عنها بتفصيل أكثر إن شاء الله. الفرع الآخر في الجهاز المناعيّ الخلويّ هو فرع (CD8) وهو الفرع القضائيّ والتنفيذيّ المسؤول عن تصفية المجرمين والمحكوم عليهم. هناك أيضًا فرق أخرى ثانوية ليس من الضروريّ أن نتطرق لها هنا.

***
من نكات المناعة عند البشر أن تطوّرها بطيء جدًّا في مواجهة الأمراض الجديدة
سريعة التطور. يشكّل انتشار فايروس نقص المناعة المكتسبة “
HIV(الّذي
يقوّض أركان الجسم من خلال التغلغل في فرع

CD8 القضائيّ مسببًا انشقاقات في الصفّ الداخليّ للمناعة) في أفريقيا
تهديدًا كبيرًا، وفي بعض المناطق قد تصل نسبة الحاملين للفايروس إلى 75%، إلّا أنّ
المومسات في تلك المناطق الموبوءة واللّاتي ينقلن الفايروس لغيرهنّ في المقام
الأوّل، وُجد أنّ لديهنّ مناعة ضدّ الإيدز نتيجة طفرة وراثية في بروتين مهمّ اسمه
CCR5“…في هذا
العالم سيكون البقاء للمومسات والنجاة على إيدي ذرّيتهم!

استطاع العلماء إثبات أنّ خلايا الذاكرة اللّيمفاويّة تعيش طوال فترة حياة الإنسان
من خلال تجربة إنسانيّة غيّرت مسار التاريخ، ألا وهي إطلاق القنبلتين الذريّتين
على مدينتي هيروشيما وناكازاكي. وجد العلماء أن الناجين من الانفجار لا زالوا
يملكون خلايا ليمفاوية مشوّهة من أثر التلوث الإشعاعي في أجسامهم بعد أكثر من
خمسين سنة، والأصل في الخلايا أنّها تتجدد وتتكاثر، فليس من المفترض أن تبقى أية
خلايا مشوّهة في الدم وإلا أصبحت سرطانيّة. لكنّ هذه الخلايا المشوهة لم تنقسم منذ
ذلك الحين لتحافظ عل ذاكرتها. لولا مأساة هيروشيما وناكازاكي لما استطعنا معرفة
ذلك!
***

الخلايا التائيّة التنظيمية (Regulatory T Cells) مهمة جداً للحفاظ على استقرار الجسد، إذ تُشكّل صمّام الأمان بين قوات الأمن المناعيّ وخلايا الجسم في حال نشوب نزاعات تؤدّي إلى حرب أهليّة تهاجم فيها الخلايا المناعيّة خلايا الجسم، وتقوم هذه الخلايا أحياناً بتوظيف لجان شعبيّة من خلايا تحمل شهادات ليمفاوية تائيّة ولكنّها عاطلة عن العمل، لتساعدها في ضبط المناطق الّتي تشهد نزاعاتٍ ومواجهات أو كوارث. هذه اللّجان الشعبيّة قد تتحول إلى شبيحة في الأنظمة المناعيّة الفاسدة. الأشخاص الّذين لا يملكون هذا النوع من الخلايا نتيجة طفرة وراثية في البروتين المُمايز “FOXP3” يموتون في عمر مبكر نتيجة مرض وارثيّ نادر يُعرف بـ(Immune dysregulation, Polyendocrinopathy, Enteropathy X-linked syndrome) أو متلازمة “IPEX” بحيث تظهر كل أنواع أمراض المناعة الذاتيّة عند المصابين بهذا الخلل الوراثي. في المقابل، أحيانًا متكون هذه الخلايا فاسدة، فبدل أن تُسخّر جهاز المناعة لحماية الجسم من الأخطار الخارجية والقلاقل الداخلية، فإنها تُسخرّه لحماية الفساد والخراب الّذي قد يؤدي بحياة الإنسان.

ظنّ العلماء حتّى الماضي القريب أنّ السرطان يقضي على الإنسان من خلال هزيمة المناعة أوّلًا ومن ثمّ الانتشار والسيطرة على المناطق الاستراتيجيّة في الجسم، إلّا أنّهم اكتشفوا في السنوات القليلة الماضية أنّ الخلايا السرطانيّة لا تتمكّن من تنفيذ أيٍّ من أجنداتها إلّا بعد اتفاق تُبرمه مع ضُباط الخلايا التنظيميّة (T-regs) للتآمر على أجهزة المناعة الأخرى وتسخيرها لخدمة الورم وتوسّعه في المنطقة. ولأنّ الخلايا التنظيميّة تملك السلطة على الأجهزة المناعيّة الأخرى فإنّها تعمل على منع أيّ استجابة مناعيّة ضدّ الورم النّامي موهمةَ الجسد أنّ هذا الورم (منّا وفينا…والله ما بتخوث!) وأن لا تثريب عليهم، في الوقت الّذي يعمل فيه هذا الورم على استغلال ثروات الجسد لينمو ويزدهر ويسيطر على كل مؤسسات الدولة…أقصد الجسد… مجهزًا على الجسم بأكمله.

لا جرم أنّ الهزيمة تبدأ من السوس الداخليّ، فحتى أجسامنا لا تنهزم إلّا بخيانة رؤوس الأمر فيها!
ولأنّي لا أحبّ أن أرى دمعة أمّي تنهمر عليّ فإنّي أسأل الله تعالى أن يوفق الأخ الأكبر لما فيه الصحّة والسلامة، وأن يديم علينا نعمة المناعة الطبيعيّة والمكتسبة، وأن يجعل هذا الجسد آمنا مطمئنّاً سليماً معافىً وسائر أجساد المقهورين. إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.

الصورة المرفقة تبيّن تجمّع خلايا (T-regs) حول الورم لتحميه من مهاجمة الخلايا المناعيّة الأخرى:

T-regsAdapted from Dr. Hancock, the chief of the Division of Transplant Immunology at Children’s Hospital, Foxp3+ T regulatory cells, or Tregs

المنشورات: 1

المشاركون: 1

اقرأ كامل الموضوع