الرق والإسلام – الجزء الأول: مشكلة الرق

كتب @AlaaHaimour:

بقلم جوناثان براون

جوناثان براون أستاذ مساعد ورئيس برنامج الحضارة الإسلامية في جامعة جورجتاون.

هذا المقال هو الأول من ضمن ثلاثة أجزاء تناقش مسألة الإسلام والرق، وهو يشير إلى أن مصطلح “الرق” بحد ذاته مصطلح مبهم لدرجة أنه أصبح غير ذي نفع من الناحية العملية ليتم استخدامه بهدف مناقشة السيطرة والاستغلال الشديدين على مر التاريخ، فيتوجب تسليط الضوء على ظروف الاستغلال المفرط بدلاً من سَوق المصطلحات. أما المقال الثاني فسيمهد لفهم مسألة الرق في الشريعة الإسلامية والحضارة الإسلامية، كما سيبحث الجزء الأخير مسألة إنهاء الرق في الإسلام.

هل هناك رق في الإسلام؟ عندما يطرح الناس هذا السؤال فهم يفترضون عادة بأنه الجزء الذي يحتاج إيضاحاً من الإسلام. يعلم الجميع ما هو الرق، إلا أنه في الواقع العكس تماماً، فجانب الرق في الإسلام واضح نسبياً، والمشكلة الحقيقية تتمثل في محاولة تبيُن ما نعنيه بالرق، فكلما توغلنا أكثر في مفهوم هذه الكلمة وحاولنا تحديد حقيقتها، وجدنا أن افتراضاتنا بل وحتى كلماتنا لا تسعفنا في ذلك. ما نظن أننا نعنيه بكلمة الرق لا يمثل سوى جزء يسير خارج تجربتنا في أمريكا، وفي اللحظة التي نحاول فيها إصلاح ما يعنيه الرق بوصفه ظاهرة إنسانية فإننا نجد قاعة مليئة بالمرايا تعكس افتراضاتنا الخاصة علينا، فجميعنا نعتقد أننا نعلم ما هو الرق ولكن هل كنا لنميزه في حال رأيناه؟

لنتخيل أن بمقدورنا استكشاف ظاهرة الرق عبر التاريخ، ولنتخيل (بوصفنا من أشد المعجبين بمسلسل دوكتور هو) أنه أتيحت لنا فرصة ركوب مركبة تارديس التي تتيح لنا المجال للسفر عبر المكان والزمان، وستكون وجهتنا الأولى أرضاً قاحلة نائية يكثر فيها الرق. نزور منزلاً لعائلة مرموقة نجد فيه بعض الأشخاص الذين يؤدون أعمالاً منزلية بينما يجلس رجل كبير ليشرب الشاي، ولدى الجميع لون البشرة ذاته، وفجأة يصرخ الرجل الكسول الذي كان يشرب الشاي على شاب يخدمه ويضربه بقوة باستخدام منشة ذباب. يعترينا الفضول لمعرفة من يكون كل هؤلاء الأشخاص، ولحسن الحظ فإن تارديس تترجم كافة اللغات مباشرة إلى دماغك، فنسأل أحد الرجال الذين يقدمون الشاي عن اسمه ويجيب أن اسمه هو زعفران وأنه “أحد الرقاق” الذين يعملون في أعمال المنزل، فقد عمل في هذا المنزل لمدة خمس سنوات ولكنه يخبرنا أنه في غضون سنة سيكون قد وفر مالاً كافياً للانتقال وبدء مشروعه الخاص في مجال تقديم الشاي، وعندما نسأله عن الشاب الذي ضُرب يقول: “أوه، ذلك الصبي المسكين… سيبقى هنا حتى يموت الرجل العجوز.”

نعود إلى تارديس لنبحر في الزمان والمكان لنلتقي هذه المرة برئيس وزراء ذي نفوذ في إمبراطورية واسعة. يدخل رئيس الوزراء غرفة العرش محاطاً بعشرات الجنود المسلحين، ونستشعر وجود حالة من الذعر في التمتمات الخافتة للجمهور المحيط بنا، حيث يهمس أحد الأصوات: “الوزير يساوي 80 مليون داكون ذهبي”، ويرد آخر: “إنه متزوج من ابنة الملك”. الوزير وحراسه جميعاً من ذوي البشرة الشاحبة والشعر الأشقر الفاتح، بينما العديد من المتواجدين هناك لتقديم التماساتهم والسعي لنيل الحظوة ذوو بشرة أكثر دكونة وبشرة زيتونية.

بعد مقابلة الوزير ننطلق مجدداً ولكن هذه المرة إلى أرض أكثر برودة، حيث نلتقي برجل يعمل في مصنع للساعات، هو يكره حياته، لذلك نوافق على أخذه معنا، ولكن مالك المصنع يقبض عليه أثناء مغادرته فيزج الرجل في السجن.

نستمر بعد ذلك بالإبحار بمركبة تارديس إلى بلاد جديدة نرى فيها أثناء عبور الشارع مجموعة من ذوي البشرة السوداء يقومون بتعشيب الأرض تحت شمس حارة، القيود في سيقانهم وجميعهم متصلون بالقيود، وهنالك رجل ذو بشرة شاحبة يراقبهم حاملاً سلاحاً بيده.

إلى أين أخذتنا تارديس في جولتنا الاستكشافية عن الرق يا ترى؟ أول مكان زرناه كان مدينة مكة في القرن الخامس عشر، والرجل الرقيق اللطيف زعفران كان عبداً يخدم في منزل الرجل الثري وقد كان أبرم مع سيده اتفاقاً بشراء حريته بالمكاتبة، والرقاق هو المصطلح الذي كان يطلق على العبيد كما كانت تطلق عليهم بالعادة أسماء أبيقورية مثل زعفران،أما الشاب الذي تعرض للضرب لسوء خدمته والذي كان على ما يبدو يتوجب عليه الالتزام بالخدمة المنزلية طول عمره، فقد كان ابن الرجل الثري.

أما المكان الثاني الذي زرناه فقد كان عاصمة الإمبراطورية العثمانية عام 1579، حيث كان الوزير صقللي محمد باشا الوزير الأعلى والحاكم الفعلي للإمبراطورية أثناء زمن السلاطين الثلاثة، وفي وقت زيارتنا كان من بين أثرى الرجال في الإمبراطورية وأقواهم نفوذاً لما يقارب العقدين، وقد كان عبداً كذلك للسلطان، فقد ولد في البوسنة شأنه شأن جميع الحراس الذين كانوا عبيداً للسلطان كذلك. (1)

والبلاد التي قابلنا فيها الرجل الذي يعمل في مصنع الساعات كانت إنجلترا عام 1860، فبالرغم من أن العامل كان رجلاً حراً، إلا أنه وفقاً لقوانين العمل في إنجلترا آنذاك كان أي عامل يتغيب عن العمل يعتبر مذنبا ًبالسرقة من رب عمله وكان يحاكم ويحكم عليه بوصفه مجرماً. وأخيراً فإن المكان الأخير الذي زرناه كان مكاناً اعتبر فيه الرق غير شرعي منذ زمن طويل، وهو ريف أريزونا عام 2004، حيث كان عمدة المدينة يشرف على معاقبة مجموعة من السجناء بأسلوب العصابة المقيدة chain gang.

مشكلة تعريف مفردة “الرق”

كيف نستطيع أن نميز العبد من الحر ممن التقينا بهم أثناء جولتنا؟ سيعتقد معظم الغربيين المعاصرين على الأرجح أن الشاب الذي ضُرِب والعمال المقيدين كانوا عبيداً وذلك لأننا نربط الرق بالإهانة الجسدية والعمل الشاق والعنف، ولن نفترض على الأرجح أن الرجل “الرقيق اللطيف” كان عبداً لأنه أخبرنا بأنه سينتقل قريباً إلى عمل آخر يعمل فيه وفق شروطه الخاصة، في حين أننا نربط الرق بالفقدان الكامل لوكالة الشخص على حياته مثلاً، كما أننا لن نفترض بالتأكيد أن الوزير كان عبداً، وذلك لأنه من الواضح أنه كان يمتلك ثروة هائلة وسلطة على حياة الآخرين في الإمبراطورية وموتهم.

ما الذي نبحث عنه حقيقة عندما نبحث عن ظاهرة الرق؟ هل لقب “عبد” هو ما يهم؟ أم هي حقيقة الوضع وراءه؟ الجنود والقادة في الصين إبان حكم سلالة كينغ من أقلية المانشو (1644-1912) كانوا عبيداً من الناحية العملية (أو “آها” في اللغة الصينية) لأبناء السلالة وكانوا يذكرون ذلك بفخر، بعد ذلك كان هذا اللقب الخاص بالعبيد يطلق على أي شخص ينحدر من أقلية المانشو في الصين أيام حكم سلالة كنغ، ولكن الكلمة لا تمت بأي صلة لحقيقة أي حالة استعباد. (2) منذ بداية القرن التاسع عشر أصبحت السلطة العليا في الإمبراطورية العثمانية في أيدي أشخاص كانوا يصنفون عملياً بأنهم ينتمون إلى الكول (وهم عبيد لهم حظوة عند السلطان) لديهم من السلطة والرفعة ما يفوق ما لدى نظرائهم. (3)

عندما تمر علينا مفردة تترجم على أنها “عبد slave” بالإنجليزية، فهل هذه الكلمة تعني بالضرورة ما نقصده بالرق slavery؟ تأتي كلمة عبد slave في الإنجليزية من الأصل اللاتيني في القرون الوسطى الذي كان يطلق على السلافيين Sclavus، وذلك أنهم كانوا يسكنون البلقان التي كان تجار الرقيق الأوروبيون يحضرون بضاعتهم منها حتى القرن الثالث عشر. (4) والتعريف الشائع لكلمة slave الإنجليزية هو “شخص مملوك قانوناً لشخص آخر ويجبر على العمل لذلك الشخص من دون أجر.” هذه الفكرة الموجودة في العبودية، فكرة انتقاص قيمة البشر ليصبحوا أشياء يمتلكها أشخاص آخرون أصبحت موضوعاً رئيسياً في كيفية فهم المصطلح في الغرب، وقد كانت حاسمة في كيفية فهم مناهضي العنصرية لمسألة الرق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وذلك حين بدأت حركة إنهاء العبودية، ولكن جذور هذا التعريف ترجع إلى جذور الموروث الغربي، فهي ترجع إلى القانون الروماني الذي قسم الناس إلى فئتين: الأحرار (والشخص الحر له “حق طبيعي” في فعل ما يريد مالم يكن هذا الفعل ممنوعاً في القانون) والعبيد، الذين يتواجدون بوصفهم ممتلكات للآخرين.

ولكن حتى تعريف الرق بواسطة مصطلحات مثل التملك والاستغلال يثير المزيد من التساؤلات أكثر مما يجيب، فماذا يعني التملك؟ في القانون الأمريكي ننظر إلى التملك على أنه “حزمة من الحقوق”: حق الاستخدام، والاستغناء، والإتلاف، والبيع، يتمتع المالك أحياناً بجزء منها، وغالباً ما يكون ذلك مع وجود ضوابط رئيسية، وأحياناً يتمتع المالك بها جميعاً. سنستبعد هنا على الأرجح امتلاك الأطفال لألعابهم، وذلك لأنه من الواضح أنهم لا يتحكمون بها (في الحالات النموذجية!)، ولكن الأطفال في أمريكا “يمتلكون” ألعابهم التي نمنحهم إياها من الناحية القانونية، إلا أن تملكهم لها ليس كاملاً لأن حقهم في استخدامها مقيد بشكل كبير من قبل الوالدين.

يعتمد معنى التملك على مدى تصورنا للعلاقة مع الرقيق على أنها قائمة على التحكم والسيطرة، وذلك كما يشير المؤرخ الاجتماعي الشهير أورلاندو باترسون، حيث يقول أن من وما نقول أننا نمتلكه يعتمد فقط على عاداتنا وأعرافنا. (5) قد يستغرب الأمريكيون المعاصرون من فكرة “تملكهم” لأطفالهم، ولكن منذ زمن الرومان وحتى العصور الوسطى كان الآباء في أوروبا يستطيعون بيع أطفالهم عبيداً للدائنين بهدف دفع ديونهم، علاوة على ذلك كان تخلي الأهالي الفقراء عن أطفالهم يعد مصدراً أساسياً لأسواق النخاسة في أوروبا. (6) ومع ذلك فإن جميع هؤلاء الأطفال كانوا “أحراراً” في البداية من الناحية العملية وفق المعنى القانوني، ولم يكونوا مملوكين لأي أحد. في الولايات المتحدة تمتلك الزوجات والأزواج حقوقاً وسلطات كبيرة على بعضهم البعض وعلى عملهم، وذلك يبدو واضحاً في حالات الطلاق، (7) ولكننا لا ننظر إلى الزواج إطلاقاً على أنه علاقة تملك، إلا أن العرف السائد في الإمبراطورية الصينية القديمة كان مختلفاً، حيث كان الأزواج عادة مايضعون زوجاتهم “الحرات” في قوائم ممتلكاتهم عند كتابة الوصية فيورثوهن لبعض الأًصدقاء(8)، ومن المثير للدهشة أنه في الفترة ما بين عام 1760-1880، أي قبل زماننا هذا بأقل من قرن ونصف- وقعت 218 حالة لرجال إنجليزيين يقيمون مزادات لبيع زوجاتهم، بل وينشرون الإعلانات عن هذه المزادات في الصحف.(9)

ما الذي يعنيه امتلاك شخص؟ هل يعني ذلك امتلاك السيطرة الكاملة عليه؟ نحن نمتلك سيطرة كاملة على أطفالنا، ولكن ذلك لا يكون مثل امتلاك السيطرة على كرسي أو قلم حبر، فلا يمكننا أن نؤذيهم جسدياً بشكل فعلي من دون أي تبعات قانونية، وفي الواقع فإن هذا الاختلاف ما بين التملك والسيطرة لا يفيدنا كثيراً في تعريف الرق، فكما هو الوضع مع أطفالنا اليوم، كان من المحظور على المسلمين قتل عبيدهم أو إلحاق أذى كبير بهم، وكان على من يخالف ذلك أن يواجه تبعات قانونية نصت عليها الشريعة. قد يفشل مفهوم التملك في بعض السياقات بشكل كلي في أن يكون مفهوماً مفسراً للرق، فالرق كان موجوداً في إمبراطورية الصين ولكنه لم يكن يفهم ضمن مفهوم التملك، فقد كان لا يمكن “تملك” العبيد بشكل قانوني على الإطلاق لسبب عملي هو أن القانون الصيني لا يصنف الناس على أنهم “أشياء”. (10)

إذا نظرنا إلى الرق على أنه استغلال، فهل يعني الرق عدم تعويض شخص ما عند قيامه بعمل ما؟ كان صقللي محمد باشا عبداً “يملكه” السلطان العثماني، ولكنه كان يتلقى أجراً مرموقاً مقابل عمله صدراً أعظم، كما كان زعفران مملوكاً لسيده لكن بشكل جزئي لأنه كان قد اشترى جزءاً من حريته مقابل أجور نالها من أعمال في أماكن أخرى قام بها أثناء وقت فراغه، صحيح أنه لم يتلقَ أي أجر من سيده ولكن سيده كان قد دفع ثمن طعامه وملابسه ومسكنه، ومن الصدفة أنه في هذا الجانب كان العبد لا يختلف عن ابن المالك نفسه، فكلاهما كان غير مستقل ويعتمد على المالك فيما يخص تأمين الحاجات الأساسية.

عادة ما ننظر إلى الرق على أنه الشق الآخر المقابل للحرية، ولكن ماذا تعني الحرية؟ كما يصوغ الباحث القانوني فون لو جايبس مقولة روسو الشهيرة عن وضع الإنسان الطبيعي بكونه حراً فيقول: “يولد الإنسان مكبلاً بالأغلال، ولكنه أينما كان فإنه يعتقد أنه حر”(11)، فليس هنالك تقريباً أي إنسان متحرر من الاعتماد على الآخرين وعلى المجتمع ككل، والجميع تقريباً مجبرون على العمل من أجل الحصول على أجور تساعدهم على شراء الطعام. الابن الذي زرناه وكان يعمل في الخدمة المنزلية في مكة كان حراً من الناحية العملية ولكنه كان يعتمد على والده في كل أساسياته وكان عليه أن يطيعه أو أن يواجه غضبه، وإذا ترك منزله هارباً من والده البغيض فسينبذه جميع من يعرفهم ويحبهم، وفي الوقت ذاته ينال العبد أوقات استراحة في المساء حيث يجمع المال ليحرره سيده بعد فترة وجيزة، فمن الحر في هذه الحالة؟

من الناحية النظرية فإن الطريقة التي نفهم بها نحن في الغرب الحرية موروثة عن الإغريق والرومان الكلاسيكيين، حيث كانت صفة “حر” تعتبر التصنيف القانوني للمواطنين في دولة ديمقراطية، فالشخص الحر يمتلك الحرية لعمل ما يريد/تريد مالم يمنع القانون هذا الفعل، وكل من هم غير ذلك عبيد. ولكن حتى في الأوقات الكلاسيكية لم يكن هذا التعريف القانوني للحرية سوى “حجة بلاغية” كما يشير أحد الباحثين، وذلك لأن الحقيقة كانت أن قلة قليلة من الناس في عهد الإغريق والرومان كانوا يعدون “أحراراً” وفق هذا التعريف، فقدك ان الجميع تقريباً مقيدين بقيود اجتماعية واقتصادية وحتى قانونية قوية.(12) ومن المثير للسخرية أنه حتى نظرياً تنطبق هذه الفكرة عن الحرية على الديمقراطيات الحرة فقط، بينما في الدول الإستبدادية، والتي ربما تشكل أغلبية المجتمعات في التاريخ الإنساني، فلا أحد تقريباً حر وفقاً لهذا التعريف. (13)

وكذلك لا تكون الحرية على مستوى واحد، فهي غالباً ما تكون مرتبطة بالعلاقات، إذ تزيد الاعتماد على العلاقة المعنية أو تقلله. في مناطق حوض البحر المتوسط زمن القرون الوسطى (في كلا الحضارتين الأوروبية والإسلامية) لم يكن خضوع العبد التام أمراً مطلقاً، فقد كان عليه/عليها أن يخضع لسيده لا للمجتمع بأكمله، لذلك كان الرومان ومن بعدهم البيزنطيون يستخدمون العبيد للعمل في متاجرهم وليمثلوا واجهة أعمالهم، فكانوا يفاوضون ويساومون الكثير من الزبائن والمتعاقدين الأحرار بشكل يومي.(14) كما لم يكن العبيد يشكلون أدنى مرتبة في السلم الاجتماعي في شوارع روما والقسطنطينية/ إسطنبول، ففي حال كون السيد ذا سلطة وغنى يستفيد العبد من آثار ذلك في الحياة العامة، حيث كانت حالة العبد تعتمد على حالة سيده.

نظرتنا إلى الرق-الرق الأمريكي التملكي

إلى الآن ما نلاحظه هو أن أي سؤال يطرح حول الرق يكون سؤالاً معقداً، وأحد أكبر التحديات التي يواجهها علماء التاريخ وعلم الإنسان المهتمين بمسألة الرق يكمن فيما إذا كانت هناك أي مؤسسات للرق وجدت على مدى عدة أزمنة وأمكنة ليتمكنوا من دراستها.(15) وهو ما يشير إلى أن هنالك شيئاً يسمى “رق”، بالرغم من الاختلاف في التفاصيل، يظهر فجأة على طول الأزمنة التاريخية ونستطيع تمييزه في حال رأيناه، ولكن بالتأكيد كما أظهرت لنا رحلتنا الخيالية على متن تارديس، فإن ما سنميز أنه رق سيكون محدداً وفق ذاكرتنا الثقافية الخاصة لما تعنيه الكلمة الإنجليزية ˈslā-v(ə-)rē (رق) بالنسبة لنا.

عندما يفكر الأمريكيون في الرق يتبادر إلى أذهاننا فيلما “اثنا عشر عاماً من العبودية twelve years a slave” و”جذور roots”، والصور في الفيلمين محفورة عميقاً في أذهاننا: صور رجال ونساء وأطفال إفريقيين يمسكهم تجار عبيد عديمو الرحمة لينتزعوهم عن بيوتهم ويفرقوهم عن بعضهم البعض ثم يسوقوهم مثل قطيع إلى عنابر سفن العبيد المكدسة بهم، وبعد ذلك يبيعونهم في أسواق النخاسة مثل المواشي لملاك المزارع البيض، الذين بدورهم يجبروهم على العمل فيقمعونهم ويجلدونهم من دون رحمة لما تبقى من عمرهم. يعد الرق في ذاكرة ثقافتنا بمثابة “الخطيئة الأولى” لأمريكا، ويأتي الرق هنا بمعنى التقليل من منزلة شخص من دون إرادته، ليكون بمثابة أي من الممتلكات، فيمتلكه شخص آخر يكون له حق مطلق في التحكم بعمله ويحرمه من الحقوق الطبيعية بالحرية والحصول على عائلة.

درجات العمل الإجباري

إذاً وكما شاهدنا، فإن كلاً من التملك والحرية والاستغلال تكون في درجات متباينة، فهي تتواجد على مستويات مختلفة، وقد حاول علماء التاريخ والاجتماع تحديد هذه المستويات، وذلك في جزء منه بهدف تحديد ما إذا كان بمقدورنا الحديث عن الرق بوصفه شيئاً منفصلاً عن الأشكال الأخرى للعمل الإجباري أو الاستعباد غير الطوعي، فكانت المستويات الأساسية لهذا “الاعتماد المستمر” بالإضافة إلى العبودية هي: (16)

  • القِنانة (عبودية الأرض): سادت في أوروبا، ويرجع هذا التقليد إلى اليونان القديمة، حيث كان العاملون الذين عادة ماكانوا مزارعين من الأرياف، أحراراً من ناحية تملكهم لملابسهم وأدواتهم ومواشيهم بالإضافة إلى ما يكسبون من أعمالهم، ولكنهم كانوا مرتبطين بالأرض التي كانوا يعيشون عليها أو بمالك تلك الأرض أينما ذهب. (17) تطورت القنانة في أوروبا عندما تراجع وضع الفلاحين الأحرار وأسرى الحرب البربر الذين استقروا هناك، في نهايات الإمبراطورية الرومانية ليصبحوا ضمن فئة واحدة هي فئة “شبه العبودية” والتي لا تختلف كثيراً عن العبودية.(18) اختفت بعد ذلك القنانة من معظم دول غرب أوروبا مع بدايات انتشار الموت الأسود في القرن الرابع عشر، وذلك على الرغم من استمرارها ضمن القانون المختص بوضع الفلاحين العبيد في إنجلترا حتى قرابة القرن السابع عشر كما استمرت حتى القرن التاسع عشر في مجالات التعدين في اسكوتلندا والمناطق الناطقة بالألمانية. وغالباً ما ترتبط القنانة بروسيا، حيث جاءت القنانة فيها لتحل مكان الرق في مجالات الزراعة والخدمة المنزلية في أواخر القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر.(19)
  • علاقة السيد والخادم: عندما اختفت القنانة من غرب أوروبا حلت محلها العلاقة بين العامل ومالك الأرض/ صاحب العمل. فعلى خلاف ما تكون عليه عقود العمل في عصرنا هذا، كان عدم التزام العامل بهذا العقد يعد عملاً إجرامياً، ثم بدأ مفهوم العمل الحر بالظهور في المستعمرات البريطانية شمال أمريكا أواخر القرن الثامن عشر، لكنه لم يصل إلى بريطانيا حتى عام 1875.(20)
  • عبودية الدَّين: يعد هذا النوع أحد أكثر أشكال العمالة الإجبارية انتشاراً، حيث أن الشخص غير القادر على سداد دينه يصبح عبداً لدائنه، وقد كان هذا الشكل كثير الشيوع في جنوب شرق آسيا، حيث كان النموذج الغربي للرق نادراً جداً.(21)
  • العمالة التقييدية/ عبودية الالتزام بعقود طويلة الأجل: وهي تشابه عبودية الدين وكانت شديدة الشيوع على مر التاريخ، حيث يلتزم شخص ما طوعاً باتفاق يقتضي مبادلة عمله وخسارته لبعض الحريات على مدى فترة محددة مقابل بعض الخدمات أو مبلغ من المال يدفع مقدماً، وهذا الشكل يختلف عن عبودية الدين لأن الشخص يتنازل عن عمله وعن مستوى معين من الحرية طوعاً.

هذه الفئات ليست محددة أو منفصلة تماماً عن بعضها البعض، بل أن كلاً منها تتداخل مع الأخرى وهو ما يجعل من الصعوبة التوصل إلى حد واضح يفصل الرق عن الأشكال الأخرى من العمالة الإجبارية، فعلى سبيل المثال، كان عمال المناجم الاسكوتلنديين (الخاضعين لنظام القنانة) يرتدون ياقات مكتوب عليها أسماء أسيادهم، وهو أمر قد نربطه على الأرجح بالرق،(22) كما يمكن أن يباع العبيد الخاضعون لعبودية الدين في بريطانيا، والذين كانوا يشكلون ثلثا نسبة المهاجرين إلى الأجزاء البريطانية من أمريكا الشمالية قبل عام 1776، وأن يجبروا على العمل إلى حد الإجهاد، وأن يضربوا لسوء تصرفهم، ولم يكن بمقدورهم أن يتزوجوا، كما كانوا (في فرجينيا على الأقل) يشوهون إذا حاولوا الهروب، أما في ميريلاند فكان عقابهم هو الموت.(23)

في المستعمرات الأمريكية كان وضع الرق أكثر سوءاً من ناحية أن ذلك الوضع كان دائماً، وفي المقابل في القرن الخامس عشر في الإمبراطورية العثمانية كان أولئك الذين يؤسرون في الحروب يستخدمون أحياناً للعمل في أراضٍ يملكها السلطان، وبالرغم من أنهم كانوا عبيداً من الناحية العملية إلا أن وضعهم كان أقرب إلى القنانة، فكان هؤلاء العبيد يكونون أسراً دامت لأجيال كما كانوا يورثون الأراضي التي كانوا يعملون بها لأبنائهم، وفقط في حال مات سيد المنزل من دون أن يكون له أبناء فإن أملاكه كانت تذهب إلى خزينة السلطان. بعد ذلك، بعدما تحولت المدن في الدولة العثمانية إلى مدن صناعية أصبح ملاك المصانع يفضلون استخدام العمال العبيد لأن العبيد لا يغادرون للعمل في أعمال موسمية في أماكن أخرى، ومن خلال الموافقة على عقود المكاتبة مع هؤلاء العبيد، وهي تلك العقود التي كان العبيد يشترون من خلالها حريتهم مقابل أقساط، أصبح ملاك هذه المصانع قادرين على زيادة إنتاجية العبيد، (24) فكانوا في الواقع أقرب إلى العمال الذين يعملون مقابل أجر لمدة زمنية محددة في علاقة سيد بخادمه منهم إلى العبيد.

قد نعتقد أن الرق يختلف عن الأنواع الأخرى من العمالة الإجبارية من ناحية إمكانية الاختيار، فالخدم الملتزمين بعقود طويلة الأجل كانوا قد اختاروا الإلتزام بتلك العقود، بينما العبيد لا يمكنهم إطلاقاً اختيار أن يصبحوا عبيداً، أليس كذلك؟ ولكن الواقع أكثر تعقيداً بكثير، فخارج نطاق الرق في أمريكا لم تكن “العبودية الطوعية” أمراً غير مألوف بتاتاً،(25) فأيام حكم سلالة منغ في الصين قام الكثير من المستأجرين الذين عجزوا عن قضاء ديونهم ببيع أنفسهم ليصبحوا عبيداً، (26) وفي عام 1724 أنهى القيصر الروسي الرق وجعل جميع العبيد يصبحون أقناناً لأن الأقنان كانوا يقدمون أنفسهم طواعية ليصبحوا عبيداً بهدف تجنب دفع الضرائب، فقد كان على الأقنان دفع الضرائب في حين لم يكن على العبيد فعل ذلك، (27) وقبل ذلك في دوقية موسكوفي في القرن الخامس عشر أصبح ما يطلق عليه الباحثون اسم “عبودية عقد الخدمة المحدود” أمراً شائعاً، وفي مثل هذه العقود يطلب شخص ما قرضاً لمدة عام من شخص ثري فيسد دينه بعد عام ويعمل لديه كذلك أثناء هذه المدة بدلاً من دفع الفوائد، وإذا لم يستطع المدين سداد دينه في غضون عام واحد فإنه يصبح عبداً للدائن، وغالباً ما كانوا يصبحون عبيداً مدى الحياة. هذا النوع من العبودية جاء ليحل محل جميع أشكال العبودية في روسيا، كما كانت هنالك أيضاً قنانة إجبارية في الوقت ذاته، حيث كانت تختلف عن العبودية فقط في كونها لا تؤدي إلى أذى جسدي من قبل السيد. (28)

على خلاف العاملين القسريين أو الأقنان، قد نتصور أن العبيد هم أشخاص لديهم حق ضعيف في الحماية أو أنهم لا يمتلكون هذا الحق أصلاً، وهذا تصور صحيح على الأغلب، ففي الصين أيام حكم سلالة منغ كان يشار إلى العبيد غالباً على أنهم “ليسوا بشراً”، فلم يقتصر الأمر على عدم قدرتهم على التملك أو الزواج أو الحصول على أطفال شرعيين بل أن قتل أحدهم لم يكن ليتسبب بأي مشاكل قانونية،(29) ولدى مجموعة توراجا في سولاوسي (في أندونيسيا اليوم) كان إذا أدين أحدهم بجريمة تقتضي الإعدام، فإنه يستطيع إعدام أحد عبيده بدلاً منه، (30) كما أن قاضياً في ساوث كارولاينا عام 1847 أصدر قراراً بأن العبيد “لا يمكنهم الاحتكام لا إلى الماغنا كارتا ولا إلى القانون العام”، فالقانون بالنسبة للعبيد كان ما يقوله السيد. (31)

لم تكن الحيثيات القانونية لوحدها معقدة على الأغلب إلى حد ما، بل كانت كذلك الحيثيات الاجتماعية ما وراء القوانين، ففي القانون الروماني كانت الفكرة الشائعة عن العبيد هي أنهم أشخاص مجردين من الحقوق، وذلك لأنهم نظرياً كانوا أسرى حرب أنقذوا من الإعدام، فهم أموات من الناحية القانونية على جميع الأحوال،(32) وأثناء فترة الجمهورية الرومانية (من القرن السادس إلى الأول قبل الميلاد) لم تكن هنالك قيود قانونية تحدد شكل معاملة السيد لعبيده، ولكن مثل هذه القوانين لا تعد ذات نفع إذا أردنا التمييز ما بين الأحرار والعبيد، حيث كان أرباب المنازل الرومان في ذلك الوقت يمتلكون “السلطة النظرية للحياة والممات” على كل رجل وامرأة وطفل في العائلة. (33) وحيث أن أعداد العبيد كانت في ازدياد على رقعة الإمبراطورية الرومانية الآخذة في التوسع، وضعت القوانين التي تهدف إلى حمايتهم، ففي عهد الإمبراطور هادريان (حتى عام 138 للميلاد) كان العقاب المبالغ فيه محظوراً وكذلك كان قتل العبد من دون حكم قانوني، أما الإمبراطورين أنطونيوس بيوس (حتى عام 161 للميلاد) وقسطنطين الذي أتى لاحقاً (حتى عام 337 للميلاد) فشددا على أنه في حال قتل سيد عبده بدم بارد أو جراء عقاب مبالغ فيه فإنه يعد مذنباً بتهمة القتل، وفي القانون القضائي في عهد الإمبراطور جستينيان (حتى عام 565 للميلاد) كان من المعروف أن حقوق السيد بممارسة العنف ضد عبده محدودة في أغراض التأديب المعقول. (34)

في بدايات أمريكا كانت في المستعمرات الثلاثة عشرة جميعها قوانين تضبط الأعراق والرق وقد كانت تحدّث وفق مناسبات معينة، وبالرغم من أن عشر ولايات في الجنوب الأمريكي كانت تحتوي على قوانين خاصة بالعبيد تجرم إساءة معاملتهم، إلا أن إساءة المعاملة كانت تفهم وفق درجة العصيان أو التقصير الذي كان السيد يعاقب عبده عليه، وكان كل من بتر الأطراف والإخصاء والإعدام مسموحة بوصفها وسائل للعقاب في حال كون الجريمة المزعومة كبيرة، كما أنه كان من المستحيل تقريباً بالنسبة للعبيد أن يعترضوا على أي حكم في المحكمة، حيث أنهم لم يكونوا قادرين حتى على الشهادة، إلا أنه في المقابل هنالك حالات تم فيها إعدام عدد قليل من ملاك العبيد من البيض أوسجنهم جزاء لقتلهم عبيداً لهم أو لمعاملتهم بعنف.(35)

تعريفات لا يبدو أنها تصلح على الإطلاق

لاحظ ديفيد ديفيس وهو باحث بارز في موضوع الرق، أنه “كلما علمنا المزيد عن العبودية ازدادت صعوبة تعريفنا لها”،(36) وتبين في الواقع أنه من الصعب جداً التوصل إلى تعريف فوق تاريخي للرق، وكما لاحظ باحث بارز في الرق في الدولة العثمانية فإنه من الصعب التعامل مع موضوع الرق بوصفه ظاهرة واحدة قابلة للتحديد في الإمبراطورية العثمانية وحدها، ناهيك عنه في العالم كله (إلا أنه يشدد على أن أشكال الرق في رقعة الدولة العثمانية كانت متباينة في درجاتها لكنها لم تكن كذلك في نوعها)، (37) وقد لاحظ نور سوبرز خان أن الرق في إسطنبول أيام الدولة العثمانية كان شديد التنوع إلى درجة تجعل من غير المعقول الحديث عن الرق بوصفه ظاهرة موحدة في مدينة واحدة فحسب، ناهيك عنه في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط كاملة، (38) بل أن الباحثين لا يجمعون على نقطة البداية، فالعديد من علماء التاريخ الذين ينحون المنحى الماركسي حاولوا تفسير الرق بأنه ظاهرة إقتصادية محضة، بينما شدد آخرون، خصوصاً الباحثون في الرق من العالم الإسلامي، على أن الرق غالباً ما يكون أكثر من مجرد ظاهرة اجتماعية.

اتجهت تعريفات الرق إلى الدوران في فلك توجهات ثلاث: العبد بوصفه دخيلاً من عائلة أقل درجة، والعبد بوصفه جزءاً من الممتلكات، والعبد بوصفه الطرف الخاضع للتعنيف، (39) ولكن يعد ذلك التعريف مبهماً إلى حد أنه يعد عبثياً تقريباً إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه يجب أن يتناسب مع كافة الأمور التي عادة ما يربطها الناس اليوم بالرق، فالرق إذاً هو “العمل الإجباري من قبل مجموعة لصالح مجموعة أخرى” وفق ما يقول بعض علماء الاجتماع، (40) في حين يشير آخرون إلى أن العبد دائماً ما يكون منبوذاً، (41) ووفقاً لديفيس فإنه من أجل أن يكون التعريف قابلاً للتطبيق على التاريخ الإنساني بأكمله، يمكن تعريف الرق بأنه “تحقير” اجتماعي حاد بحيث يكون العبيد في قاع التسلسل الهرمي أياً كان نوعه. (42)

في حين اقترح بعض الباحثين تعريفات أكثر تحديداً للرق بوصفه ظرفاً اقتصاديا قانونياً اجتماعيا، حيث يشير أحدهم إلى أن الرق هو حالة من الاستغلال التي تتميز على نحو فريد بقدرتها على إعادة إنتاج ذاتها من خلال العنف السياسي أو الأسر أثناء الحروب بالتحديد. (43)

أما التعريف المحدد الأكثر تأثيراً فهو ذلك الذي اقترحه أورلاندو باترسون، والذي يعرف العبودية بأنها دائماً ما تبرز ثلاث خصائص، أولها هو أن الرق يقتضي وجود سيطرة أبدية تفرض أخيراً باستخدام العنف، وثانيها هو أن الرق يقتضي وجود حالة من السلخ عن الأنساب، “أي انقطاع روابط النسب بالأجيال السابقة واللاحقة”، الأمر الذي يحول دون وجود مزاعم متعلقة بالنسب أو بتوريث الأنساب إلى الأبناء، وهو ما من شأنه أن يفصل العبد عن عائلته ومجتمعه فيما عدا ما يسمح به الأسياد، فهؤلاء العبيد لا يرثون حماية أو ميزات ولا يستطيعون توريث أي منها إلى أبنائهم. وأخيراً فإن العبيد مجردون من أي نوع من الكرامة، وهكذا يعرف الرق على أنه “سيطرة عنيفة دائمة على أشخاص مسلوخين عن أنسابهم ومجردين من الكرامة بشكل عام.” (44)

ولكن تعريف باترسون لا ينطبق على العديد من الحالات التي نراها أشكالاً من الرق، حيث أنه في بعض الأحيان كان الرق هم من يسيطرون على الأحرار كما في حالة العبيد الجنود الأتراك في الخلافة العباسية في القرنين التاسع وبداية العاشر. وحتى قبل أن يبدأ العثمانيون بتطبيق نظام العبيد الإمبراطوري لديهم كانت مصر وسوريا تحكمهما دولة المماليك (وهي الكلمة التي تعني حرفياً “العبيد”) (في الفترة ما بين الأعوام 1260-1517 تقريباً). وعلى الرغم من أنهم أصبحوا أحراراً بعد إنهائهم تدريباتهم العسكرية، إلا أن أمراء الحرب من سلالة المماليك من الترك أو القوقازيين أعادوا إنتاج أنفسهم جيلاً بعد جيل من خلال استيراد جنود عبيد جدد ليكوّنوا نخبة عسكرية حاكمة كانت تعرف بخبرتها في مجال العبيد العسكر، (45) كما كانوا بعيدين أشد البعد عن كونهم تحت سيطرة أي أحد، فقد كانوا أسياد أنفسهم وسيطروا على الدولة والمجتمع بأكملهما. ويشير باترسون إلى أن نخب العبيد في الحضارة الإسلامية كانت لا تزال غير ذات سلطة بشكل كبير لأن مصيرهم كان متعلقاً بأهواء أسيادهم، إلا أن تكرار حالات إعدام عبيد ترك عباسيين ومماليك مصريين وإنكشاريين عثمانيين لأسيادهم باختصار عندما كان الأمر مواتياً لهم لفعل ذلك، يشير بقوة إلى عكس ذلك.

لم يتم على الدوام سلخ أولئك الذين يعرفون بأنهم عبيد عن أنسابهم، كما أن العبيد في الإمبراطورية البيزنطية كان بمقدورهم امتلاك أملاك خاصة وتوريثها لأبنائهم، (46) وكان عبيد الحقول في الدولة العثمانية من الذين كانوا يعيشون على أراضٍ للدولة، يورثون ممتلكاتهم لأبنائهم على طول أجيال عدة. وعلى عكس الأمر بالنسبة للعبودية في الإمبراطورية الرومانية، حيث كانت حالة أم الطفل تحدد حالته، كان الوضع العام في الشريعة الإسلامية هو أن الجارية التي تلد لسيدها طفلاً تصبح حرة هي وابنها بمجرد وفاة سيدهما، وحتى ذلك الوقت لا يستطيع بيعها، وهكذا بدلاً من سلخ نسب الأم عن طفلها ، فإن حالة الطفل بوصفه طفلاً لرجل حر يؤمن للأم نفسها الحرية. أما في حالة العبيد النخب في الإمبراطوريات مثل صقللي محمد باشا فقد كانوا يسلخون عن أنسابهم بمعنى أنهم لم يكن بمقدورهم توريث ثرواتهم لأبنائهم (بل كانت تعود إلى خزينة الإمبراطورية عند موتهم)، إلا أن أبناءهم كانوا يحتفظون بامتيازات توفرت لهم من خلال قرب آبائهم من السلطة وكذلك من أوضاع أمهاتهم، فقد كانت زوجة صقللي محمد باشا هي ابنة السلطان، كما شغل أبناؤه مناصب رفيعة.

أضف إلى ذلك أنه كانت هنالك وسائل بسيطة للإلتفاف على السلخ عن الأنساب بهدف الإبعاد عن الثروة، فشأنهم شأن العديد من المواطنين الأثرياء في الإمبراطورية العثمانية كان باستطاعة عبيد الإمبراطورية وضع ثرواتهم في الأوقاف وجعل ذرياتهم هم المستفيدين. (47) أما الأمر الأكثر إدهاشاً فهو أنه في العديد من الحالات كان عبيد الإمبراطورية العثمانية يحتفظون بعلاقاتهم مع عائلاتهم الأصلية في المناطق المسيحية في البلقان ومن ثم يساعدون على إعلاء شأن أقربائهم باستخدام السلطات الممنوحة لهم حديثاً، (48) فمثلاً عين صقللي محمد باشا أخاه بطريركاً أرثوذوكسياً في البلقان، كما تبعه أحد أبناء عمومته في وقت لاحق ليشغل منصب الصدر الأعظم. (49) وبعد ذلك في القرن الثامن عشر كان العبيد النخبة من أصل جورجي والذين كانوا مسؤولين عن إدارة منطقة مصر في الدولة العثمانية، يحافظون على علاقات وثيقة مع عائلاتهم في القوقاز لدرجة أنهم كانوا ييستقبلونهم زواراً. (50)

في بعض الأحيان كان استغلال العلاقات العائلية أحد أهم أهداف الاسترقاق، فمن الناحية العملية كان المسيحيون الأوروبيون الذين تأسرهم قوات البحرية العثمانية في الجزائر في القرن الثامن عشر غالباً ما يكونون أقرب إلى كونهم رهائن، حيث كان بمقدورهم إرسال الرسائل إلى عائلاتهم واستلامها، وإذا كان الأسياد محظوظين كانوا يتلقون فديات من عائلات الرهائن لتحريرهم، وفي الوقت ذاته كان بإمكانهم التملك وجمع المال (فمن كانوا يعملون منهم في وظائف متعلقة بالنخب مثل وظيفة ساقي القهوة قد يعيشون حياة أفضل من تلك التي كانوا يعيشونها في مواطنهم الأصلية) كما كان بإمكانهم الاختلاط بالناس بحرية. (51)

الرق في الإسلام- الجانب السياسي

قبل الغوص في كيفية دخول الرق إلى الإسلام (للمزيد عن ذلك اطلع على المقالة التالية) من الجدير بالذكر أن هذه القضية لم تطرح من فراغ، كما لم تكن موضع النقاش قبل القرنين الماضيين، وفي النقاشات والمناظرات تعد الإجابة “حسناً، هل هذا يعني أن الرق لا بأس به؟” الورقة الرابحة الأخيرة ضد أي شخص يدعو إلى مجاراة القيم المختلفة. يعد الرق النموذج الأنسب للاستشهاد به، وذلك لأن الشر فيه واضح تماماً من الناحية الأخلاقية ومسلم به على نطاق واسع، فمن ذا الذي سيدافع عن الرق الذي يعد أكثر الممارسات البشرية تطرفاً؟ إلا أنه على الرغم من قوة كلمة الرق إلا أنها نادراً ما خضعت للتعريف، وهي من هذه الناحية شأنها شأن كلمة الإرهاب، حيث أن قوتها تكمن في المزاعم الكامنة وراء معناها والإدانة الأخلاقية التي تحملها، ولكنها في الوقت ذاته لم تخضع للتعريف إلا بشكل ضعيف جداً.

شأنه شأن كلمة الإرهاب، يعد الرق قضية سياسية غاية في العمق كذلك، لا من الناحية السياسية كما نراها على نشرات الأخبار المسائية بل من ناحية أنها ترتبط أصلاً بقضايا تتعلق بالسلطة، فكما أن ممارسة الاستعباد يعد استخداماً مطلقاً للسلطة من قبل أشخاص ضد آخرين، فإن التلويح باستخدام لغة الرق يعد بمثابة ادعاء لامتلاك السلطة الأخلاقية على الآخرين. ولعله ليس من المفاجئ أن دعاة إنهاء الممارسات الوحشية أو الاستغلالية للعمل مثل المهن الشاقة والاتجار الجنسي بالأطفال والزواج الإجباري وتجارة الأعضاء، يشيرون إلى تلك الظاهرة بأنها “عبودية العصر الحديث”، فالسبب واضح وراء توظيف كلمة “عبودية” بدلاً من تعريفات أخرى مثل العمالة المقيدة أو عمل الأطفال، وهو أن كلمة العبودية تستثير ردة فعل عاطفية تدفع الناس إلى التحرك ومناصرة قضية ما، فمن الطلاب إلى نجوم الروك سيتحرك الجميع لإنهاء العبودية.

وبالرغم من أن مثل هذه الممارسات تعد بالفعل ممارسات بغيضة، إلا أننا سنواجه بعض المشاكل الاعتيادية بالنسبة لعبودية العصر الحديث، فإذا أخذنا تعريفات الرق التي استخدمها النشطاء ضد “العبودية الحديثة” (وأهم هذه التعريفات هو أنك تعرف الرق “إذا لم يكن بإمكانك التخلص منه”) وطبقناها على التاريخ الغربي فقط سنجد أنه لم يكن أي أحد تقريباً حراً وفقاً لمعاييرهم، (52) وكما لاحظ بعض الباحثين فإن أبرز الدعاة إلى إنهاء عبودية العصر الحديث لم يطلقوا هذا اللقب على العمالة الإجبارية التي تفرض على السجناء في قانون العقوبات الأمريكي، (53) وقد يكون ذلك من دون شك خياراً سياسياً بامتياز، لأن عدد نجوم الروك والطلاب الذين سيكونون على استعداد لتوجيه الاتهامات للحكومة الأمريكية بكونها شاركت في عبودية تحدث في الوقت الحالي سيقل، وهكذا فحتى عندما تطرح قضية العبودية لأهداف سامية في يومنا هذا فهي لا تزال كلمة سياسية بامتياز من ناحية رد الفعل العاطفي الذي تستثيره وكذلك من ناحية وجود رقابة ذاتية يفرضها الناس أينما ووقتما أرادوا استحضار هذه الكلمة.

وردت الطبيعة السياسية للرق بالتحديد في تاريخ الإسلام والغرب، ففي أثناء القرن الثامن عشر وحتى في القرن التاسع عشر كان الخوف من الأسر على أيدي القراصنة المسلمين في المحيط الأطلسي والجزء الغربي من البحر الأبيض المتوسط يسيطر كثيراً على مخيلة الأوروبيين الغربيين (البريطانيين تحديداً)، وبالفعل فقد أسر الآلاف من البريطانيين والأمريكان وأصبحوا عبيداً بهذه الطريقة، ولا نزال نرى اليوم الأثر الثقافي لهذا الخوف في أفلام مثل فيلم لا تقل أبداً مرة أخرى never say never again (1983) عندما ينقذ جيمس بوند كيم باسنجر من مزاد رقيق عربي يبدو من الواضح أنه من خارج هذا الزمان، وفيلم تيكن Taken (2008) حيث ينقذ ليام نيسون ابنته أخيراً من تجار ألبانيين (مسلمين) ومن ثم أخيراً من شيخ عربي فاسق. ولكن على غرار الاستخدام الانتقائي لمصطلح “عبودية العصر الحديث” يعد هذا الخطاب انتقائياً في مزاعمه المتعلقة بالسلطة الأخلاقية لدى الغرب، ففي الفترة ذاتها التي كان الأوروبيون والأمريكيون أثناءها يستنكرون الأسر والاستعباد على أيدي القراصنة المسلمين، كان استعباد الأوروبيين للمسلمين من الإمبراطورية العثمانية في أوجه،(54) بل أن ذاكرتنا الثقافية الغربية أكثر انتقائية، إذ لم يشعر رواد السينما الغربيون على الأرجح بأي استياء في فيلم الجاسوس الذي أحبني The spy who loved me (1977) حيث يزور بوند حريم صديقه الشيخ العربي الذي يعرض عليه إحدى نسائه (فحسبما يقول الشيخ عندما تكون في المشرق “عليك الغوص عميقاً في كنوزه”). في عام 2015 ردد العديدون، من الصحف الشعبية إلى دونالد ترامب الذي لم يكن عندها يشغل أي منصب حكومي، مزاعم حول خداع المسلمين في شمال إنجلترا لشابات بيضاوات ليصبحن سبايا لأغراض جنسية، صحيح أن بعض المسلمين كانوا يفعلون ذلك بالفعل إلا أن ما لم تذكره إلا تقارير صحفية قليلة هو أن معظم الجناة كانوا في الواقع رجالاً من ذوي البشرة البيضاء. (55)

الخلاصة: علينا التركيز على الظروف لا على الكلمة نفسها

استخدمت كلمة الرق استخداماً سياسياً حتى عندما استحضرت لخدمة أنبل القضايا، وغالباً ما عملت القوى السياسية التي شكلت كيفية فهم الرق على تقييد أفضل الجهود التي قام بها مناهضو الإستغلال المفرط لبشر آخرين. في القرن التاسع عشر قرر مناهضو العنصرية تعريف الرق على أنه معاملة البشر جزئياً بوصفهم ممتلكات، وذلك لأنهم إذا عرفوا الرق بأنه حرمان أو استغلال شديد سيشير معارضوهم المؤيدون للرق إلى المصانع أوالظروف التي كانت فيها أثناء الفترة الصناعية في إنجلترا وأمريكا، منوهين إلى أن العمال “الأحرار” في تلك المصانع كانوا يعاملون بالقدر ذاته من السوء. (56)

مع تأكيدهم على أن الرق عبارة عن أناس يعاملون كأنهم ممتلكات خاصة تُرِك مناهضو العنصرية من دون أي اعتراض ليستمروا باستغلال الأشخاص أنفسهم الذين حرروهم، وذلك بمجرد أن أصبح امتلاك العبيد غير قانوني. وقد نجح مناهضو العبودية في إنهائها في المحيط الهندي في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، ولكنهم بعد ذلك وجدوا أن العمال كانوا لا يزالون يُنقلون إلى شرق إفريقيا من الهند في ذات الظروف الفظيعة التي كانوا يعانون منها عندما كانوا عبيداً وبنفس معدلات الموت المرتفعة كذلك، إلا أنه كان يطلق عليهم اسم “عمال” coolies بدلاً من عبيد slaves. (57) واليوم بعد عقود من إلغاء حق امتلاك بشر آخرين في العالم كله، قام النشطاء الذين يشار إليهم على أنهم مناهضو العبودية الجدد والذين يسعون إلى تحريك الرأي العام تجاه العمالة الإستغلالية، بإعادة تعريف الرق على أنه “ما لا تستطيع التخلص منه”. (58)

وأخيراً، يمكن لكلمة “الرق” أن تعني الكثير من الأمور التي لا تعد مفيدة كثيراً لأهداف التواصل الدقيق، وعندما نفكر بالرق، فغالباً ما ينتهي الأمر بنا بالعودة إلى أمور لا نقصدها، أو أننا نفشل في التوصل إلى أشياء نربطها بالرق. وهكذا فإن كلمة رق لها استخدام محدود بوصفها فئة أو أداة تصورية. ولعله من المفيد أكثر أن نتحدث عن الاستغلال الشديد لعمل البشر وحرمانهم الشديد من حقوقهم، فسنجد في أي مجتمع على الأرجح ظروفاً مثل هذه سواء اعتبرت “عبودية” أم لم تعتبر كذلك. وبدلاً من التركيز على كلمة أو فئة أسيء تعريفها لعله من المهم أكثر التركيز على تنظيم الظروف وحماية حقوق الناس بهدف الحيلولة دون حدوث مثل هذا التحقير الشديد، وهذا هو بالضبط ماسعت الشريعة لتحقيقه كما سنفصل في المقال المقبل.

المقال الأصلي: https://yaqeeninstitute.org/en/jonathan-brown/the-problem-of-slavery/


المصادر:

  • (1)قد يكون التقليد العثماني المتعلق بعبودية النخبة مستمداً من نهايات الإمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية، حيث كان عبيد الإمبراطورية (الذين غالباً ما كان يتم إخصاؤهم) بمقدورهم الوصول إلى مراكز مهمة في الجيش والإدارة. Youval Rotman, Byzantine Slavery and the Mediterranean World, trans. Jane Marie Todd (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2009), 104; Cam Grey, “Slavery in the Late Roman World,” in The Cambridge World History of Slavery: Volume I The Ancient Mediterranean World, ed. Keith Bradley and Paul Cartledge (Cambridge: Cambridge University Press, 2011), 499.
  • (2)Pamela Kyle Crossley, “Slavery in Early Modern China,” in The Cambridge World History of Slavery: Volume 3 AD 1420-1804, ed. David Eltis and Stanley Engerman (Cambridge: Cambridge University Press, 2011), 200.
  • (3)Christoph K. Neumann, “Whom did Ahmet Cevdet represent?,” in Late Ottoman Society, ed. Elisabeth Özdalga, 117-134. London: Routledge, 2005), 117.

(4)David Brion Davis, Challenging the Boundaries of Slavery (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2003), 17-18.

(5)Orlando Patterson, Slavery and Social Death (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1982), 22.

(6)Grey, “Slavery in the Late Roman World,” 496; Rotman, Byzantine Slavery, 174-76.

(7) Patterson, Slavery and Social Death, 22.

(8) Crossley, “Slavery in Early Modern China,” 191.

(9)Julia O’Connell Davidson, Modern Slavery: The Margins of Freedom (New York: Palgrave Macmillan, 2015), 162.

(10) Crossley, “Slavery in Early Modern China,” 187.

(11) Vaughan Lowe, International Law: A Very Short Introduction (Oxford: Oxford University Press, 2015), 1.

(12) Here quoting Youval Rotman, Byzantine Slavery, 19.

(13) Rotman, Byzantine Slavery, 17-18.

(14) Rotman, Byzantine Slavery, 97-98.

(15) Joseph C. Miller, The Problem of Slavery as History (New Haven: Yale University Press, 2012), 12.

(16) David Eltis and Stanley Engerman, “Dependence, Servility, and Coerced Labor<

المنشورات: 1

المشاركون: 1

اقرأ كامل الموضوع