الفرق بين التَّعليم والتّدريس

كتب @suleiman:

“بإذنِ اللهِ أولادنُا سيذهبونَ إلى أفضلِ المدارسِ ليحصلوا على أفضلِ تعليمٍ”.
“كم صَرَفنا عليهم في المدارسِ ليتعلّموا”.
“هذهِ المدرسةُ لديها أفضلُ مدرِّسين وبالتالي أفضلُ تعليمٍ لأبنائنا” …

والخ من الجملِ التي نَسمعها بشكل مستمرٍّ، سواءً من جيلِ آبائنا أم من جيلِ شبابننا الجديدٍ، والتي تجمعُ هاتين الكلمتين معاً؛ “التعليم” و”التدريس”، وكأنهما كلمتانِ مترادفتانِ، وهما في أَهونِ الأحوالِ كلمتانِ مُتَضادَّتانِ، وفي أَشَدِّها نَقيضتانِ من النَقائِضِ.

قبلَ التعريفِ والتوضيحِ، أدعوكم للنظر معي في هذين التشبيهين:

أولاً؛ “التعليم أو التدريس يشبه رسم لوحة فنيّة، حيث يبدأ الرسّام فيها بلوحة فارغة ويعمل على إضافة الألوان وطبقاتها لتجتمع له لوحة متجانسة، تعبّر عن رسالته وتحوّلها من لوحة فارغة إلى لوحة فنيّة جميلة”.
والثاني؛ “التعليم أو التدريس يشبه فنّ النّحت، حيث يكمن دور النّحات في إزالة العوائق عن طريق الشكل المطبوع أصلا في الصخر المنحوت ليمكنّه من الخروج مهذّبا ومشذّبا وذو ملامح واضحة وراسخة”[i].
أيّ هذين التشبيهين – برأيكم – يقارب كلمة “التعليم” وأيّهما يقارب كلمة “التدريس”؟

تَعريفاتٌ ومَفاهيمٌ مُختَلِطًة

“إنّ [التدريس] بحدّ ذاته لا يُخرجُ أفراداً ناضجين، ولا يجعل منهم أناسا أفضل أو أكثر حريّة أو أكثر إنسانيّة، إنّه يحوّلهم فقط إلى أفراد أكثر كفاءة وقدرة…وقد أثبت لنا التاريخ أن الأفراد [المدرَّسين] جيداً يمكن استغلالهم في خدمة الأهداف الشريرة والسيّئة بشكل أكثر فعاليّة [لقدراتهم] مقارنة بمن هم أقلّ [تعليماّ وتدريساّ]…ولنا في ذلك مَثَلُ الإمبرياليّة…والدّمار الذي ألحقته جيوشها….” – علي عزّت بيجوفيتش[ii].

التعليم تاريخيّا لدى الحضارات القديمة – إسلاميّة وهنديّة وصينيّة ويونانيّة وغيرها – وعند الفلاسفة وأهل العلم القدماء – كسقراط وأفلاطون وابن سينا وابن رشد والغزالي وغيرهم – يستند إلى الاعتقاد بأنّ العلم والمعرفة والقابليّة لكليهما موجودتان في كلّ إنسان أصلاً ومعنىً – بتفاوت طبعا، وأنّ الدور الرئيسي لمن تسمّى بلقب “المعلّم” هو أن يزيل العوائق وأن يفتح الطرق للمتعلّم كي يتعلّم ويمرّن قابليته الفطريّة.

ويكون ذلك بالحوار وعرض مصادر العلوم ومحتوياتها مع تبيان بعضها، وبالحثّ على التفكّر والاكتشاف، وبتعزيز القدرات النقديّة والفكريّة لدى المتعلّم – كاللغة السليمة نحواً وصرفاً والمنطق وطرق البحث ومنهجيّته والتدقيق في الأدلّة وغيرها. وكلّ ذلك بهدفِ جعلِ الإنسان إنسانا فاضلاً وحراً، مع ضمان حريّته بضمان قدرته على التفكير والتحليل والنقد والنقاش، وبالتّالي اتّخاذ القرارات التي تسمو به وتعينه على إتمام هدفه من الوجود؛ وهو خلافة الله في الأرض وعمارتها، ومعرفة الخالق وعبادته معرفة وإيمانا – ويجتمع في ذلك المسلمون وغيرهم تحت مسميّات عدّة وأفكار متعدّدة يطول شرحها وتفصيلها ومقامها ليس في هذا المقال.

Heiwa_elementary_school_1812

في المقابل نجد أنّ التدريس يستند إلى مفهوم أنّ الإنسان لا يعلم وليس لديه القدرة على التعلّم وحده – وإن حاول فإنّ احتمال الخطأ أكبر من الصواب، وأنّ مناهج الخبراء في “التربيّة والتعليم” – وهي “التدريس” حقيقة – هم من يستطيعون صياغة وترتيب الأفكار والمعلومات في مناهج ومقررات وحصص وساعات مقرّرة وخطط دراسيّة مُحكَمةٍ، تمكّن المُعَلِّم “المُدَرَّب”و “المُعتَمَد” من نقل هذه المعلومات والحرص على اتّباع المنهج المحدّد وساعاته وضوابطه لتدريب أجيالٍ جديدة؛ متعلّمة ومنضبطة. أو بمعنى آخر؛ أجيالٍ مُدَرَّسَةٍ جيداً! وذلك لأسباب مختلفة، معلنةٍ ومخفيّةٍ.

أوّل هذه الأسباب المعلنة – وعلى رأسها عند النّاس المؤمنين “بالتدريس”، هو تحقيق – وَهمِ – الحياة الكريمة والسعادةِ والراحةِ الماديّةِ التي تتأتّى من الوظيفةِ المستندة إلى الشّهاداتِ العديدةِ – التي يجب أن تكون مُعتَمَدَةً بالطّبع.

وثانيها – ولن أعدّد غيرها في هذا المقال – هو صناعةُ المجتمعِ المتجانس عن طريق تدريب الأزواج والزوجات الصالحين والمُتَفَوِّقينَ في تدريبهم، المنضبطينَ في أفعالهم داخل المجتمعات، والمشاركين بفعاليّةٍ في مسيرة الرّخاءِ المجتمعي – الزّائف – المرتكزةِ إلى التدريس الجيّدِ، كونهم به يكونون أفراداً ناجحينَ اجتماعيّاً ومندمجينَ في أوساطهم بفضلِ التدريبِ الجيّدِ على الأفكار المتّفَقِ عليها بشكل عامّ – أو ما يعرفُ بالمناهج.

أرقامٌ وحَقائِق

قبل النقدِ، من يعلمُ ما هي نسبة النجاح في القطاع الأدبي في امتحان الثانويّة العامّة في الأردن؟ 17.4% في العام 2014، هابِطةً من 51.8% في العام 2006. ما هي النّسبة في العلمي؟ 69.2% في 2006 إلى 56.7% في 2014. تكنولوجيا المعلومات؟ من 65.9% في 2006 إلى 30.1% في 2014. وبالأرقام نرى أنّ مجموع المتقدّمين في عام 2014 كان 86,069 طالب وطالبة، نجح منهم 31,481 أي بنسبة 37% من العدد الإجمالي[iii].

طبعا الثانويّة العامّة ليست مقياسا – لدى من يؤمنون بالتعليم بالذّات وغيرهم ممّن خبروا الحياة الحقيقيّة وقلّة تأثير هذا الامتحان عليها وعلى مسارها، لكنّها تحت هذا النظام التدريسي هي المقياس الذي وضعه القائمون عليه، فلمذا كلّ هذا الفشلُ والرسوب؟ طبعا يقابلُ هذا الفشلَ والرسوبَ أنظمةٌ لدولٍ مجاورةٍ ذاتِ نسبِ نجاحٍ تتجاوزُ الـ 90%، والتي هي بدورها لا تعكس عِلماً أو تعلُّماً، بل هي فقط أرقامٌ على ورقٍ تَعكسُ أجيالاً مُحبَطَةً ومُعتادَةً على الغِشِّ والكَسبِ السَّهلِ في تلك الدول، لكننا لسنا بصدد البحث في تلك الأنظمة في هذا المقال.

الأنظمة المجاورة ليست أفضل حالا، فالتّفوّق ليس إلّا حبرا على ورق.الأنظمة المجاورة ليست أفضل حالا، فالتّفوّق ليس إلّا حبرا على ورق.

ثمّ قولوا لي: ما مصير الغير ناجحين في مجتمعاتنا؟ ما وسمهم؟ وما هي رتبتهم الإجتماعيّة؟ بقيّة المقال متروكة لنقد العمليّة التدريسيّة وفلسفتها ككلّ علّنا نضع النقاط على الحروف ونتوجه للنظر خارج هذا الحيزِّ الضَّيّقِ؛ حيّزِ المدارسِ والتّدريسِ، والخروجِ إلى فَضاءِ العِلمِ والتّعليمِ.

مُسَلَّماتُ التَّدريسِ ومُنتَجاتُهُ

“إنّ [هذا] الاقتصاد والنظام العالمي [الاستهلاكي] الحالي لن يستطيع البقاء إذا وجد هنالك جيل يتسلّح بقدرات التحليل المنطقي والنقد السليم” – جون تايلور جاتو[iv].

طبعاً بَعدَ هذا التوضيحِ لِركائزِ هذين المصطلحين، وتِبيانِ الغايةِ منهما المدعومِ بالأرقام النابعةِ من مؤسسّةٍ راعيةٍ للتّدريسِ مُثبِتَةً فَشَلاً منها وفيها، أَظُنُّ أنّ موقفي قدِ اتضَّح، ولذا سَأنتَقِدُ التدريسَ في هذا المقالِ، كونه الدّاءَ والعِلَّةّ، وكونه الغالبَ في المجتمعِ والعقولِ، والمسيطرَ على مَجراها وأُفُقِها، وللخروج من حَبائِلِهِ وَجب نَقدُه وتِبيانُهُ أوَّلاً قبل التّطرُّقِ لغيرهِ – في مقالاتٍ أخرى إن شاءَ الله.

إنّ المدارسَ لا “تُعلِّم” – إلّا صدفةً، المدارسُ “تُدَرِّس”. فهي “تُدَرِّسُ” مناهجاً وُضِعَت من قِبَلِ هَيئاتٍ – في بلادنا على وجهِ الخصوصِ – ليس للفردِ أيُّ سلطةٍ عليها أو أيُّ قدرةٍ على التَّأثيرِ على مُخرَجاتِها ومُنتَجاتِها أو حَتّى نَقدِها – ولا يَختلفُ الوضعُ كثيراً في الغربِ على كلِّ حالٍ.

هل يستطيع أحد أن يخبرني كيف من الممكن لأيِّ مواطنٍ مُثقّفٍ و”مُتَعلِّمٍ” – في الأردنّ – أن يساهم في تطوير المناهج (حتّى صفحة الشكاوى الخاصّة بالمواطنين لدى موقع الوزارة معطّلة)؟ هل نستطيع كمواطنين التأثيرَ على المناهجِ وإضافةَ أو حذفِ المحتوى أو تَعديلهِ؟ هل هنالك آليّةٌ شفّافةٌ وواضحةٌ لمثلِ هذه العمليّةِ؟ أم أنّ المناهجَ تدقّق وتراجع من قبل هيئات لا نعلم مِن أعضائها إلّا أنّهم أسماءٌ على الورقِ بعد أنّ تتمَّ صياغتها بناءً على رُؤى المموِّلينَ لأنِظمتنا المدرسيّةِ وفلسفاتهم ومبادئهم كالـ USAID والبنك الدولي وغيرها – والتي مولّت برنامج “إصلاح التعليم نحو اقتصاد معرفي” بمبلغ يقارب الـ 230$ مليون مُشَكِلّةً حوالي 70% من التمويلِ الإجماليِّ للمشروعِ[v]؟

مثلاً، كثيرٌ منّا ينتقد منهاج “الثقافة العامّة” في المرحلة الثانويّة في الأردنّ كونه يعتبر منهاجا تلقينياً بامتيازٍ. لكن قليلون منّا مَن نَظروا إلى الصفحة الالكترونيّة لوزارة التربيّة والتعليم الأردنيّة وقرأوا مبادئ التعليم في الأردن[vi]. سَيفاجأ القارئُ الناقدُ المُفكِّرُ بأنَّ أغلبَ هذهِ المبادئ هي أساسُ التلقينِ الموجودِ في منهاجِ “الثقافة العامّة”، وأنَّها في أحسنِ الحالاتِ عبارةٌ عن عموميّاتٍ لا تسمنُ ولا تغني من جوعٍ، مثل النقطة (أ-4): “العلاقة بين الإسلام والعروبة علاقة عضويّة”. وفي أشدِّ الحالاتِ هي عبارةٌ عن مبادئِ لا يمكن أن يعبَّرَ عنها إلّا بأنَّها غسيلٌ للأدمغةِ بأفكارٍ قابلةٍ للنقاشِ والبحث – بل ويجبُ مناقشتها وتحليلها وهي تناقش على مستوى واسعٍ أكاديمياً في الغربِ على الأخصِّ ولا تُعتبرُ أبداً من المسلّماتِ، مثل النقطة رقم (ب-5): “الثورة العربيّة الكبرى تعبّر عن طموح الأمّة العربيّة وتطلعاتها للاستقلال والتحرّر والوحدة والتقدّم” أو (ب-8): “الأمّة العربيّة حقيقة تاريخيّة راسخة…”، وغيرها من المبادئ الأُخرى التي لا تَتَعدّى كونها حبراً على ورقٍ، ويُضرَبُ بها عرض الحائطِ في المدارسِ ذاتها أولاً قبل غيرها – كمبادئ الحريّة والمساواة والخ…. طبعاً إرساءُ هذهِ المبادئِ في المناهجِ جاءَ دونَ إجماعٍ من قبلِ المواطنين، بل عن طريقِ لجانٍ من “الخبراءِ” الذين حوّلوها إلى دروسٍ لأبنائنا، والتي إن حَفِظوها جَيِّدا نَجَحوا في حياتِهم.

الملل والإهمال المتعمّد صفتان متلازمتان في طلبة المدارس، فما السبب؟الملل والإهمال المتعمّد صفتان متلازمتان في طلبة المدارس، فما السبب؟

فَلسَفةُ “التّدريسِ” غيرُ محصورةٍ بالمبادئِ والأهداف فحسب، بل تمتدُّ إلى العمليّةِ “التدريسيّة” أيضاً!

”إنّ واجِبَ المعلّم [في نظام المدرسة والتّدريس] هو أنّ يُنَظّمَ تدفّقَ العالَمِ ومكوناتهِ إلى داخل وعي الطالبِ. وظيفتهُ أنّ يقنِّنَ عمليّةً فطريّةً تحصلُ بشكلٍ طبيعيٍ، وأن يملأ طلبتهُ [الخاويين طبيعةً] بالمعلوماتِ التي يراها هو أنّها تشكّل المعرفةَ الحقيقيّةَ دون سواها… والفردُ المُدَرَّسُ جيّداً هو شخص قد تمّ تكييفهُ وتشكليهُ ليتناسبَ مع هذا العالم… بمعنى آخر، إنّ هذا النظام يخدم المستبدّين ويزيد من راحتهم واطمئنانهم بإنتاجهِ لأفرادٍ متكيّفينَ مع أنظمتهم المستبدّةِ دون أدنى انتقادٍ أو مسائلةٍ لاستبدادهم” – باولو فريري[vii].

المدارسُ تضعُ خِططاً “دراسيّةً” تُسَلِّمُ تسليماً مطلقاً بأنَّ على كلِّ إنسانٍ أن “يَدرُسَ” التّاريخ والجغرافيا واللغات والصرف والنحو والشعر والأدب والرياضيات والكيمياء والفيزياء والأحياء والفنّ والرياضة والموسيقى والكمبيوتر والخ… من الموادِّ والمناهجِ، وكلُّ ذلكَ بشكلٍ مستمرٍّ أسبوعيّاً وسنويّاً، وبنظامٍ يتّسعُ ويضيقُ حولَ هذهِ المناهجِ وعددِ ساعاتها المعتمدةِ أسبوعياّ مع العمرِ والصفِّ ووهمِ الاختياراتِ المتاحةِ – علمي وأدبي وصناعي الخ… – وبعددِ ساعاتٍ محدَّدٍ لا يَزيدُ ولا ينقصُ. وليس لطالبِ العلمِ رأيٌ أو مشاركةٌ أو مجالٌ للانتقادِ أو التّأثيرِ على هذا التيّارِ الجارفِ – ولا حتّى رغبةٌ في تعلّمِ كلِّ هذا ممّا اختبرنا نحن أنفسنا. كلّ هذا مع تكرارٍ مملٍّ لكلِّ صفٍّ في الصفِّ الذي يليهِ ولكلِّ عامٍ في العامِ الذي بَعدهُ إلى حدٍّ يَصِلُ بالطّالبِ إلى المللِ والجنونِ معاّ!

“التّدريسُ” هو ليس فقط فكرةٌ محصورةٌ في المناهجِ والخططِ الإجباريّةِ والسّاعاتِ المعتمدة والصفوفِ الملائمةِ، بل هو نظامٌ شاملٌ يمتدُّ إلى سياساتٍ شديدةٍ؛ على رأسها سياسةُ الفصلِ العمريِّ المقيتةُ والتي تُؤمنُ بأنَّ من وُلدوا في سنةٍ شمسيّةٍ واحدةٍ لديهم قدراتٌ عقليّةٌ متقاربةٌ – طبعاً كون الإنسانِ بمفهومِهم هو عبارةٌ عن خلايا تنمو مع الأيّامِ وحسب – وأنَّ التمايزَ لا يظهرُ إلّا لاحقاً بعدَ سنواتِ “الدّراسةِ” – خلافاً لما نعيشُ في الواقعِ حيثُ التمايزُ على أشدِّهِ بينَ الصّغارِ عمراً وتضيقُ فَجوَتُهُ كلما ازدادَ العُمرُ.

سياسةُ المدارسِ وتدريسُها تُحَتِّمُ على الطّالبِ أن يَتَنَقّلَ مُهرولاً بين كلِّ هذه الموادِّ بتفاعلٍ وحماسٍ كلَّ يومٍ، لمدّةٍ لا تزيدُ عن ساعةٍ على الأكثرِ لكلِّ مادّةٍ وبفواصلَ لا تزيد على الخمسِ دقائقَ – لو وضع تحت مثل هذا النظامِ أيُّ شخصٍ بالغٍ في مكان عملهِ لأصيبَ بالجنونِ أو الصّرعِ، وكلّ ذلك على دقّة جرسٍ أو على وقع نغمةٍ موسيقيّةٍ – في المدارسِ “الراقيّةِ” والمُكلِفةِ ماديّاً – تماماً كقردٍ مدرّبٍ في سيرك!

وفوقَ كلِّ هذا يأتي التّقييمُ من الخبيرِ العبقريِّ المختصِّ والذي بتقييماته – المحايدةِ جدّاً طبعاً والموضوعيّةِ تماماً – يحدَّدُ استحقاقَكَ للمكافئةِ أو العقابِ، أو تصنيفكَ ذكيّاً أم كسولاً، ويؤولُ إليه الأمرُ لاحقاً في حياتكَ بأن بتَّ بتقديرهِ وتقييمهِ في ما سيكونُ تَخَصُّصُكَ الجامعيُّ – وبالتالي حِرفتكُ وعَمَلُكَ – والذي يحدّدُ تصنيفكَ الاجتماعيَّ ومستواكَ الفكريَّ والعقليَّ تحت هذا النظامِ.

يكفي النّظرُ إلى الهدفِ المعلنِ في الاسمِ الخاصِّ ببرنامجِ “إصلاح التعليم نحو اقتصادٍ معرفي” لمعرفةِ الهدفِ من “التّدريسِ”. فالهدفُ اقتصاديٌ بحتٌ، ونحنُ نُسَلِّمُ أبنائَنا وبناتنا طوعاً ليَدوروا في عَجلةِ هذا الاقتصادِ كأفرادٍ مُطيعينَ ومُطَوَّعينَ.

ممرّ بين الصفوف في أحد المدارس، أشبه بممرات السجون.ممرّ بين الصفوف في أحد المدارس، أشبه بممرات السجون.

والعمل؟ وهل هناك بدائل؟

أُمَّتُنا – بغضِّ النظر عن تعريفها سواء إسلاميّة أم عربيّة أم غيرها من التعريفات – في محنةٍ شديدةٍ، والكلُّ فيها ينادي بالعلمِ والتّعليمِ كأساسٍ للنَّهضةِ، فهل “التّدريسُ” هو ما نريدهُ لنبلغَ هذا الهدف؟ خصوصاً مع المناهجِ المُستوردةِ التي تجتاحُ بلادنا مِمَّن يستغلّوننا ويستعمروننا فكرياً واقتصاديّاً وعسكرياً – ويستغلّون شعوبَهم أيضا، وما يُرافِقُها من اجتياحٍ تامٍّ لمكمّلاتِها التّرفيهيّةِ – المُستوردةِ بالطبّع – من تلفزيون وألعابٍ ونُظُمِ حياةٍ استهلاكيّةٍ، صانعةً بذلك جيلاً “مُدَرَّساً” بحقٍّ وعلى طريقةِ ومنهاجِ وأفكارِ وأهدافِ المُستَعمِرِ، ولضمانِ استمرارِ حالتنا المزريّةِ تحت فقدان الحريّاتِ وضياعها، وانتشارِ الاستبدادِ والمستبدّينَ فينا. فهل هناك بدائلُ لكلِّ هذا؟

نعم، بالطبع هناك بدائل. وإلّا كيف قامت حضارةٌ وأمّةٌ ازدَهَرت قروناً طويلةً وفي عدّةِ مواقعَ من العالمٍ وكانت النّورَ لعصورِ أوروبا المظلمةِ وغيرها، مُخِرِّجَةً العلماءَ الذين لا زالت أسماؤُهم تَتَربَّعُ على عروشِ اختراعاتهم وإبداعاتهم واكتشافاتهم إلى اليوم؟

والجواب أنّه كان عندهم أنظمةُ علم و”تَعليمٍ”، جُلّها على نظامِ المدارسِ الوقفيّةِ – والحديث عنها في مقالاتٍ أخرى – وعلى نظامِ الزوايا وشيوخها، وأيضا على نظامِ المدارسِ الشاملةِ (الجامعاتِ الوقفيّةِ كالمدرسة النظاميّة وجامعة الزيتونة).

وفي الزمن الحديث وفي عصرنا الحالي، هناك أنظمةُ تعليمٍ وحركاتٌ تعليميّةٌ ثوريّةٌ ورائدةٌ، مضادّةٌ “للتّدريسِ” وأهدافهِ ومبادئهِ في كلِّ أنحاءِ العالم. كالتّعليمِ المنزليِّ والمجتمعي في الولايات المتّحدة – والذي فيه حواليّ مليونين شخص يدرسون في المنازل[viii]، والتعليم النِّقاشي في أمريكا اللاتينيّة – حركة باولو فريري التعليميّة في البرازيل وتشيلي، والمدارس الدينيّة التقليديّة – والتي حدّثتّها الدولّة التركيّة الحديثة وأعادت افتتاحها في 2013، فضلاً عن مدارسِ النخبةِ حول العالم، والذين يرفضونَ إرسالً أبنائهم إلى المدارسِ التقليديّةِ والمدارس العامّةِ رفضاً تامّاً – الطبقات الأرستقراطيّة في أوروبا وأمريكا وغيرها.

هلِ “التّعليمُ” و”التّدريسُ” نقيضانِ؟

يقول علماءُ المَنطقِ:”النّقيضانِ لا يَجتَمِعانِ ولا يَرتَفِعانِ مَعاً”،

فهلِ “التّعليمُ” و”التّدريسُ” نقيضان؟

من وجهةِ نظري وتحليلي فالجوابُ نعم. فهيَ إمّا “التّعليمُ” أو “التَّدريسُ” وليسَ كلاهُما، ولا وجودَ لخيارٍ ثالثٍ.

“فالتّعليمُ” يَرتكزُ إلى الحُريّةِ لتحقيقِ هدفِ الإنسانِ من الوجودِ والحياةِ، أمّا “التّدريسُ” فيرتكز إلى الانضباطِ الجَماعيِّ وقَمعِ الحُريّةِ الفرديّةِ لتحقيقِ نظامٍ مُجتَمَعيٍّ مُصطَنعٍ.

“التّعليمُ” يدعوا إلى التّفكّرِ والتّأمّلِ والاستكشافِ للتعرّفِ على الكونِ وخالِقِهِ، أمّا “التّدريسُ” فيُكرَّسُ الإذعانَ واتِّباعَ المساراتِ المرسومةِ مسبقاً والسّيرَ على مناهجٍ موحَّدةٍ وضيّقةٍ – حتّى عندَ البحثِ والتوسّعِ – لخلقِ حضارةٍ زائفةٍ لنعيشَ في سرابٍ صِناعيٍّ ودائِرةٍ استهلاكيّةٍ مُغلقةٍ.

باختصار؛ “التّعليمُ” حُريّةٌ ونقدٌ وبحثٌ وسِعةُ اطّلاعٍ وفَلاحٌ، و”التّدريسُ” قَمعٌ وانِضباطٌ وضِيقُ أُفُقٍ وتَعاسةٌ، دنيا وآخرة.

ولكم الخَيار،،،

سليمان سمير عربيات


[i] (Gatto، 2005، صفحة XXXIV)

[ii] (بيجوفيتش 1993, p. 49 , )

[iii] (إدارة التخطيط والبحث التربوي، 2014، صفحة 59)

[iv] (Gatto، 2005، صفحة XXXV)

[v] (وزارة التربيّة والتعليم الأردنيّة، 2012، الصفحات 36, 37)

[vi] (وزارة التربيّة والتعليم الأردنيّة، 2015)

[vii] (Freire, 1996, p. 57)

[viii] (Ray, 2015)


المراجع والتقارير والصفحات:

Brian D. Ray. (16 April, 2015). Research Facts about Homeschooling. تم الاسترداد من National Home Education Research Institute: http://www.nheri.org/research/research-facts-on-ho…

John Taylor Gatto. (2005). Dumbing Us Down: The Hidden Curriculum of Compulsory Schooling. Gabriola Island, British Columbia: New Soceity Publishers.

Paulo Freire. (1996). Pedagogy of the Oppressed. UK: Penguin Group.

إدارة التخطيط والبحث التربوي. (2014). التقرير الإحصائي للعام 2013 – 2014. عمّان: وزارة التربيّة التعليم الأردنيّة.

علي عزّت بيجوفيتش. (1993). الإسلام بين الشرق والغرب. Oak Brook – Illinois: American Trust Publications.

وزارة التربيّة والتعليم الأردنيّة. (2012). إصلاح التعليم نحو اقتصاد معرفي. عمّان: وزارة التربيّة والتعليم الأردنيّة.

وزارة التربيّة والتعليم الأردنيّة. (16 نيسان, 2015). نظام التعليم في المملكة الأردنية الهاشمية. تم الاسترداد من الموقع الرسمي لوزارة التربيّة والتعليم الأردنيّة: http://moe.gov.jo/MenuDetails.aspx?MenuID=91

المنشورات: 1

المشاركون: 1

اقرأ كامل الموضوع