دفنّا الله والثورة معًا

كتب @hala_tumeh:

“لقد هز موسم الثورات ثقتنا بما كنا عليه قبلها، و غدا واضحًا أن الافتراضات الأساسية التي قامت عليها حياتنا لم تكن سليمةً كلها، والمؤسسات التي أسلمناها قيادنا لم تكن ذات كفاءة أو أمانة، والشخصيات التي ركنّا إليها واعتقدنا بعلوّ كعبها وجدارتها لم تكن كما خِلنا، لذا بات عبء هذا الجيل أن يرفع كل ما حلّ فيه الشك إلى طاولة الفحص ليشرّحه ويستخرج باطنه حتى يبين الله الحق فيه. لكنني اخترت الأكثر استقامةً و تمهلًا من السلوك إزاء هذه الأزمة: أن أجمّد العقيدة القديمة دون إسقاطها، وأدخلَ في طوْر تأمّل في القديم والمستجد، فلا جزم بالأول ولا بالثاني، ولا قناعات نهائية، وأترك فكري للتطور الحرّ، وكل الأديان والفلسفات عندي محل نظر، والله المستعان “. (1)

“ويا الله مالنا غيرك يا الله!”، من شعارات الثورة السورية.

“يا ربي يا قدير فرجينا انو مش عاجبك اللي عّم بصير … ياربي يا جبار انقذنا من شعبك المختار!”. (2)

لكن حالما وجد زرادشت نفسه وحيدًا حدث قلبه بهذا الكلام: أيعقل هذا؟! هذا القديس العجوز لم يسمع هنا في غابه بعد أن الله قد مات؟! (3)

يحمل الجيل الجديد -جيل الثورة ومواليد كؤوس الصراع الديني- واجبًا أخلاقيًا وإنسانيًا دينيًا يفوقهم وأعمارهم، قد ورثوه شرعيًا من شعوبهم المنكوبة والمنكوسة مع هموم الآباء.

في عصر ما بعد الحداثة والوله بالعنصر الغربي، تطل الأسئلة الخانقة باحثة عن إسقاط نفسي رصين؛ لتخفيف الصراع الناجم من العجز عن تحليل الواقع الثوري غير السوي، بحثًا عن حلول مقنعة تواسي أصحابها.

وَمِمَّا لوحظ في الآونة الأخيرة انتشار ظاهرة الإلحاد خاصة بين فئة الشباب من عمري، التي على أخفها حدة تنادي بنبذ التراث الديني ونفي كتب البخاري أو التملص من الدين باسم اللادينية والعلم. والتي مما وجدناه احتوائها على خنق وإحباط دفين وعتب محبين على الدين وممثليه، وإن كانت تتستر برداء العلم والفلسفة، فتسقط عند المحاججة؛ لعدم وجود هذه الحجة الحقيقية في حال المعظم.

لسنا نقلل من شأن ما وصل إليه أحد، بل لا يحق لنا ذلك وإن أردناه. لكن حالة الإلحاد التي نراها اليوم: هي حالة عاطفية أكثر من كونها عقلانية قائمة على مبادئ منطقية؛ وهذا ما يفسر حالة العدمية وغياب الهدف بين الكثير منا، والخجل من تراثنا والتقرب من الرجل الأبيض الأكثر نجاحًا!

ليس الهدف هنا هو الاستخفاف من شأن المرحلة خاصة إذا ما علمنا أن وجودها ضروري بل ومطلوب لإحداث نهضة حقيقية، وإن كنا لسنا في محل يأهل أمثالنا لتحديد معالمها، إلا أنها مرحلة حساسة وفاصلة ستشهد على ما عرف بعلم الاجتماع ب” الحركة ضد النظام”.

ونورد هنا وصف شريعتي لها: “تظهر أحيانًا في المجتمع حركة تحمل أفكارًا وعقائد وتطلعات، عادة ما يكون وراء هذه الحركة عناصر شابة تنشط في التحرك وتميل إلى التغير والتجديد… وتواصل هذه الحركة سيرها باندفاع ورغبة جامحة في كسر القيود وتحطيم الحواجز التي تعترض طريقها وعادة تكتسب طابعًا نقديًا عنيفًا وتحتج على كل شيء”.

ويرى شريعتي وعلماء اجتماع آخرون أن لا سبيل لإحداث أي نهضة حقيقية وتغير في المجتمع بدون هذه الحركة التي تنفض الغبار القديم وتعادي النظام الحالي، سواء كان سياسيًا أم دينيًا أو اجتماعيًا!

“يصف جيمسون ما بعد الحداثة بأنها هيمنة ثقافية أو نتيجة مترتبة على رد فعل تجاه الحداثة، وعلى تحول حاسم من الاحتكار إلى الرأسمالية متعددة الجنسيات، وهذا التوسع الكبير في السوق العالمية وما يصاحبه من تطورات في وسائل الإعلام الإلكترونية اخترقت كل جوانب الوجود الإنساني ومستوياته؛ مما أدى إلى ظهور عالم شهدت أحواله تغيرات اجتماعية ونفسية مكثفة وعميقة. وفي مجتمع الصورة الذي يراه بلا أعماق انمحت كل الفوارق والاختلافات، فلم تعد الأشياء تعزى إلى عمليات الإنتاج البشري، فضاع المضمون العاطفي وضاع الهدف أو المسافة النقدية. ولا سبيل اليوم إلى استعادة الماضي إلا باعتباره معارضة أدبية، ومن خلال عبث عشوائي تتضح مظاهره في الموضة والموسيقى وأفلام هولويد التي تتناول الاغتراب.”. (4)

469c9_ثقافة-دمياط-يحتفل-بالعيد-الثاني-لثورة-25-يناير-على-مدى-الشهر

إلى جانب كل ما أتي على ذكره وطبيعة العصر الحالي، ترتفع أصوات الإسلاميين بضمان الحل السياسي الأمثل للحالة الراهنة، ورميه كمفتاح نجاة بدون نبش أو مراجعة مبادئ هذا الخيار وأصوله الفقهية وإمكانية تطبيقه واقعيًا في ظل الظروف المواتية.

وهنا يتسائل د.أحمد البغدادي: “ماذا لدى الفكر الإسلامي المعاصر لكي يقدمه في قضايا النهضة؟ الفكر الإسلامي الذي يحارب الروائي والقاص والكاتب والمثقف والصحفي والأستاذ الجامعي والمرأة والديمقراطية، كيف يستطيع أن يفكر بالنهضة والحضارة؟ من جانب آخر يعمل الفكر الإسلامي المعاصر تابعًا وخادمًا للنظام السياسي الاستبدادي، فكيف يستطيع أن يفكر بالنهضة والتقدم وهو مناصر للاستبداد؟!”

مرة أخرى أسامة الدرة وبعبارة أبسط: “ملخص أيديولوجيا الإسلاميين: أن الإسلام يمكنه وحده إصلاح أخطاء العالم إذا أضيفت إليه السلطة السياسية”.

فانفجار بعض الأفكار وتبلورها لدى الجماهير يشكل أحيانًا مباغتة صاعقة، ولكن ذلك ليس إلا أثرًا سطحيًا يخبئ وراءه عادة عملًا طويلًا وبطيئًا سابقًا. والثورة الفرنسية التي تشكل أحد أهم الأمثلة وأكثرها إثارة، وجدنا نقد الكتاب والمفكرين للنظام القديم، ثم ابتزاز هذا النظام القديم و تجاوزه. (5)

وأمام ذلك كله يتأرجح الشباب العربي بين هذه الحوارات الدينية الاصلاحية والسجالات الفقهية التي لا تنتهي؛ سعيًا لإجابات واقعية لا طوبائية شافية عن أسئلة عصره المتسارعة التي لا ترحم لا الشباب ولا العلماء. وبين تأويل النص الديني حرفيًا ورفض التسامح مع أية رؤية إسلامية جديدة تفضي إلى محاولة التقريب بين الدين والعلم، بين نظرية التطور والخلق. وَمِمَّا يزيد من تأزم الوضع تفاقم الأحداث على جيلٍ وجد نفسه بلا خيار في مواجهة ماضٍ مخزٍ، وفي انتظار مستقبل قاتم الهوية، فيختار من اختار طريق الشك والبحث سعيًا لفهم أفضل وحلول واقعية تنهض بما تنهض!

ابتلي الإنسان بهذه المشكلة ذات الحدين فأمامه طريقان متعاكسان، وهو لا بد أن يسير في أحدهما: طريق الطمأنينة والركود، أو طريق القلق والتطور.

علي الوردي / مهزلة العقل البشري

المراجع :

(1) أسامة الدرة (إخواني مصري سابق، شارك بثورة ٢٥ يناير) / مقال: تعديل موقفي العقائدي.. التحليق فوق الدين.

(2) جوان صفدي / أغنية طيرًا أبابيل.

(3) نيتشه (من أهم رموز فكر ما بعد الحداثة) / هكذا تكلم زرادشت.

(4) بيتر بوركر / من كتاب الحداثة وما بعد الحداثة.

(5) غوستاف لوبون / سيكولوجية الجماهير.

المنشورات: 1

المشاركون: 1

اقرأ كامل الموضوع