الإنسانية بين الدين و المادية الإلحادية

كتب @hussein:

milgram-600x270

نشرت هذه المقالة لأول مرة على مدونة الكاتب في سبتمبر 2013.

في عام 2010، قام إثنان من أثرى أثرياء العالم،”بيل جيتس” و “وورن بوفيت”، بإنشاء مبادرة سمياها “دعوة جيتس – بوفيت للعطاء”. هذه المبادرة كانت تنص بإلتزام الموقعين عليها بالتبرع بأكثر من نصف ثروتهم خلال حياتهم. قام بالتوقيع على هذه المبادرة “مارك زكربورغ” مؤسس موقع “فيسبوك” وقاموا بدعوة العديد من الأثرياء والمشاهير للمشاركة بها.

بل إن “وورن بوفيت”، والذي كان أغنى أغنياء العالم في عام 2008، والذي تقدر ثروته بما يزيد عن 50 مليار دولار، ذهب لأبعد من ذلك، وتعهد بالتبرع ب 99% من ثروته للأعمال الخيرية والقضايا الإنسانية قبل موته.

بيل جيتس - وورن بوفيتبيل جيتس – وورن بوفيت

ومن المؤكد أن تثير هذه الأمثلة وغيرها من قصص المشاهير والأغنياء وحتى الفقراء، من اللاأدريين أو الملحدين، التساؤل حول مفهوم الإنسان الخيّر والإنسان الشرير، ومفهوم الإنسانية والدين، وهل يمكن للإنسان أن يكون ذا ضمير دون دين. وفي ما يلي نؤصل هذا المسألة عقليا، نفسيا و تحليليا، لنصل لإجابات لا تتصادم مع الواقع من جهة، ولا تحمّله معاني لا يحتملها من جهة أخرى.

في البداية: الإلحاد مقابل الألوهية

.قبل أن نتكلم عن مفاهيم الإنسانية والخير والشر والأخلاق، نتكلم عن نقطة أصولية إن لم تٌفهم فلن نتفق بعدها.

ما معنى أن يكون الشخص ملحدا، وما معنى أن يكون الشخص ألوهيا (atheist vs theist)؟ ما معنى أن تؤمن بالطبيعة المادية فقط، وأن تؤمن بوجود ما وراء الطبيعة المادية؟

ببساطة وإختصار شديدين:

الفلسفة الألوهية: الإعتقاد بأن أصل هذا الكون، العالم، الإنسان والحياة كلها جهة أو قوة أكبر من الكون والطبيعة، متجاوزة لها، غير محكومة بها بل هي المتحكمة بالطبيعة والكون. وأنها هي مكونة الكون بإرادة ذكية وبهدف محدد. وحسب الديانة أو الإعتقاد تكون هذه القوة هي الخالق أو عالم ما وراء الطبيعة.

الفلسفة الإلحادية أو المادية اللادينية: الإعتقاد بأنه لا وجود لشيء أكبر أو أعلى من هذا الكون المادي الذي نعيش به، وأن الكون المادي الذي نعيش به موجود بلا بداية ولا نهاية، دون الحاجة لخالق أو قوة عليا أو تصميم أو هدف، وأن وجودنا والحياة نتيجة لتفاعلات القوانين والعلاقات الكونية الفيزيائية.

تبعات المادية والألوهية على الإنسان

الآن، بعد أن ذكرنا مختصرا للفرق بين الفلسفة المادية والفلسفة الألوهية، يجب أن نفهم بوضوح تبعات ونتائج هذه الفلسفات على البشر، أي، لو كانت الفلسفة المادية صحيحة، فما هو الإنسان وما هو تفسير سلوكه؟ ولو كانت الفلسفة الألوهية صحيحة، فما هو الإنسان وما هو تفسير سلوكه؟

الفلسفة المادية: تبعتها يجب ان تكون عقليا واضحة جدا، وهي أن كل ما في العالم، من تكون للمجرات، وحركة للنجوم، تفاعل للذرات، وتشكل للأرض، ونشوء للحياة، ووجود للإنسان، كل ذلك ليس إلا نتاج للعالم المادي ضمن سلسلة من التفاعلات والقوانين المادية البحتة، قد تدخل فيها العشوائية والصدفة، لكنها تبقى محكومة بقوانين وتفاعلات مادية من أولها لآخرها.

وهكذا يكون الإنسان نتيجة للمادة، ويكون “الوعي” و “حرية الإختيار” ليسا إلا وهما. وتكون كل قرارات الإنسان، كل حركاته وكل تفاعلاته مع ما يحيط به وكل أفكاره، هي نتيجة لحالته الكيميائية وقوانين الطبيعة في تلك اللحظة، لا أكثر ولا أقل.

الإنسان والكون بنظرة ماديةالإنسان والكون بنظرة مادية

الفلسفة الألوهية: تعتبر معظم الفلسفات الألوهية أن الإنسان يتكون من جزئين: جزء مادي (الجسد)، وجزء غير مادي (الروح). وبينما يكون الجسد جزء من هذا العالم المادي، يتفاعل معه ويتأثر به، فإن الروح هي ما تعطي الإنسان طبيعة متجاوزة للمادة، وتكون الروح هي مركز القرار الفعلي في الإنسان. وهكذا يكون الإنسان كشخص يتحكم بروبوت عن طريق شاشة حاسب، فالشخص الواعي يأخذ المعطيات من الشاشة، لكن حركات الروبوت بالنهاية نتيجة لقراراته.

فإذا، فإن الإنسان ليس محكوما فقط بقوانين المادة، وبنيته الكيميائية والفيزيائية هي فقط وسيلة تواصل وتفاعل مع العالم المادي. فبالنهاية مركز الوعي واتخاذ القرار الحقيقيين للإنسان لا ماديين، ولذلك يكون وعيه حقيقة لا وهم، واختياره حرا وليس محكوما بتفاعلات مادية.

فالفلسفة المادية تعني أن الإنسان ليس مختلفا عن الكون المادي وهو جزء منه، والفلسفة الألوهية الدينية تعني أنه هناك ثنائية، أي ان الكون شيء، والإنسان شيء مختلفا عنه وإن تقاطع معه في بعض الأمور والقوانين.

الإنسان والكون بنظرة ألوهية دينيةالإنسان والكون بنظرة ألوهية دينية

ملاحظة جانبية: الفلسفات الإلحادية دائما تدعو لنفسها بصفتها المحررة للإنسان، بينما مما سبق يتبين أن المادية تعني فعليا أن الإنسان ليس مخيرا بل مسيرا بالطبيعة والكيمياء والفيزياء، وأن الفلسفة الألوهية هي التي تعني وجود اختيار حر للإنسان.

تبعات المادية والألوهية على المعاني المطلقة

الحق، الخير، الشر، الجمال، العدل، الإنسانية، الحقيقة. هذه الكلمات تحمل معاني مطلقة متجاوزة للعالم المادي (المعنى المتجاوز، أي معنى مطلق له وجود حقيقي ثابت أكبر من الكون المادي، وليس نسبي).

فكتبعة أخرى للفلسفة المادية، نجد أن هذه المعاني لا وجود لها حقيقة إلا كوهم في ذهن الإنسان. الإنسان الذي نشأ كجزء من تفاعلات مادية بحتة، هذه التفاعلات لأسباب معينة أعطته أوهام أو معاني عقلية تفيده في حياته لأسباب مادية أنانية بحتة، ولكن بما ان الكون مادي، عشوائي، يخضع لقوانين، ووجودنا من ضمن ذلك، فلا معنى حقيقي لهذه الكلمات، ولا هدف حقيقي للحياة.

ما معنى هذه الكلمات في عالم مادي مطلق؟

كتبعة للفلسفة الألوهية، نرى أنه بوجود عالم مطلق متجاوز للمادة، ووجود طبيعة مادية للإنسان، يكون هناك وجود ممكن لهذه المعاني في هذا العالم، وفي فهم الجزء الروحي من الإنسان لها وتوقه لوجودها الكامل في عالم ما وراء الطبيعة.

أي أن الحق، الخير، الشر، الجمال، العدل، الإنسانية، الحقيقة لا معنى حقيقي كامل مطلق لها في فلسفة غير ألوهية.

لماذا ؟: نظرة في الدوافع البشرية

النظرة الألوهية للكون تفترض وجود دوافع مادية مقوننة (خاضعة لقوانين) في سلوك الإنسان، ولكن تركز أكثر على الإرادة الواعية (الروح) وعلى الدوافع الفطرية التي تدفع الإنسان في اتجاه اختيار سلوكيات تصب في بوتقة القيم المطلقة كالخير والعدل.

أي أنه يوجد دوافع مادية بيولوجية وسيكولوجية، ودوافع فطرية، ولكن في النهاية من يحدد اختيار الإنسان هو الوعي الإنساني أو حقيقة الإنسان أو الروح. وهذا يعني بفرض أن هذا الوعي متجاوز للمادة، أن السلوك الإنساني قادر على ان يكون في سبيل قيم متجاوزة للمادة وللتأثيرات المادية.

على الطرف الآخر، يكون تفسير السلوكيات البشرية كلها مادية وسيكولوجية بحتة وفق للنظرة المادية للكون. أي أن قرارات الإنسان في أي لحظة هي نتيجة لحالة خلاياه ودماغه الكيميائية، جيناته، روابطه العقلية، افرازاته الغددية … إلخ.

هكذا أيضا، يكون لأي سلوك إنساني، مثل عدم إستغلال الآخرين، أو مساعدتهم، أو العمل لتحقيق إنجاز معين … إلخ، أسباب مادية أنانية، تطورت ماديا على مدى ملايين السنين لتضمن للإنسان أن يعيش وأن يستمر، فقط لا غير.

ومن ناحية سيكولوجية، فإن الدوافع المادية تتضح في الحاجات النفسية للإنسان، التي تؤدي للدوافع السيكولوجية التي تشكل سلوكه. في هذا الجانب توجد العديد من النظريات والنماذج المادية التي تحدد العناصر الأساسية للإحتياجات النفسية للإنسان، فمن نموذج فرويد “الشهوة” إلى حاجات ماسلو “الحاجات الأساسية – الأمان – التواصل – الأهمية الذاتية – تحقيق الذات”، إلى نماذج انواع الشخصيات المختلفة، سواء نموذج DISC أو MBTI أو الشخصيات العشرة “النرجسية والهستيرية والمعادية اجتماعيا والموسوسة .. إلخ”.

كل هذه النماذج تبني الحاجات والدوافع النفسية للإنسان على اسس مادية، ثم تعطيها صورة سلوكية ونفسية يمكن تصنيفها والتعامل معها.

والحاجات النفسية التي هي حسب النظرة المادية ناتجة لقوانين وتفاعلات وتطور مادي بحت، تلعب دورا أساسيا حاسما في سلوك الإنسان وتحديد خياراته. يمكن تلخيص أهم هذه الحاجات والدوافع الموجودة في كثير من النماذج العلمية ب:

– الحاجة للإهتمام: حاجة الإنسان ليكون محط أنظار وإهتمام غيره من بني البشر.

– الحاجة للسيطرة: وهي مرتبطة بالحاجة التالية.

– الحاجة للأمان و الثبات: حاجة الإنسان ليشعر انه يستطيع التنبؤ بنتائج سلوكه، وبما يحيط به، وبكونها مرضية له.

– الحاجة للشعور بالأهمية: أن يشعر الإنسان نفسه أنه مهم أو عظيم.

– الحاجة للتغيير والإثارة: أن تكون حياة الإنسان غير روتينية، وفيها أمور جديدة تثير الإنفعال و إندفاع الأدرينالين.

هناك الكثير من الحاجات والدوافع غيرها، وكلها لها تفسير من وجهة نظر مادية بحتة، فمثلا الحاجة للإهتمام وجدت ليكون هناك مساعدة من أفراد النوع لغيرهم وبذلك زيادة فرصة الفرد على النجاة والمعيشة، والحاجة للتغيير والإثارة تطورت ليخرج الفرد من محيطه ليبحث عن موارد جديدة وأماكن أخرى للمعيشة قبل نفاذ موارد المكان المحيط به، وهكذا.

تفصيل تأثير هذه الحاجات وما سبق على سلوكيات الإنسان المختلفة سيتضح في القسم التالي.

هل الإنسان الخيّر، خيّر؟

ما معنى أن يكون الإنسان خيّرا؟ الجواب المباشر لهذا السؤال: هو الإنسان الذي يساعد الآخرين، ولا يؤذي غيره، ولا يعلي مصلحته الذاتية فقط.

لكن هل لهذا الوصف أي معنى في عالم مادي بحت؟

مما سبق يتضح أن سلوك الإنسان، حسب النظرة المادية، محكوم بالقوانين والتفاعلات المادية والحاجات النفسية والبيولوجية، وبنية الإنسان الجسدية والجينية، وبنية وعوامل البيئة المحيطة للإنسان. أي سلوك يقوم به الإنسان يتم ضمن هذا الإطار.

لنأخذ بعض الأمثلة: فلنفرض أن إنسانا يريد أن يملأ حاجة الإهتمام و الشعور بالأهمية لديه، يمكن لهذا الشخص أن يساعد أيتاما مثلا فيحصل على هذا الشعور بالأهمية، ويمكنه أن يربي طفلا فيحصل على هذا الشعور، ويمكنه ان يحاول أن يصبح فنانا مشهورا ليشعر بالإهتمام والعظمة، ويمكن أيضا أن يرفع مسدسا في وجه مار في الطريق ويجعله يطلب الرحمة منه، وبهذا يملأ هذه الحاجة.

ولنفرض أن شخصا آخر يريد أن يملأ حاجة التغيير والإثارة لديه، فيمكنه أن يذهب لرحلة إلى مدينة الملاهي مثلا، أو يمكنه أن يقود السيارة في سباق متهور يودي بحياته وحياة غيره، ويمكنه ان يسرق بنكا فيملأ هذا الشعور من لذة الإنفعال والمطاردة، وغير ذلك.

فكّر بطفل وجد سلوكا يفرح أبويه ويضحكانهما ويجعلهما يركزان عليه، سيكرر هذا السلوك عدة مرات لرغبته في اهتمامهما، وعندما يفقد هذا السلوك أهميته الأولى لدى أبويه، سيعود للبكاء ليستعيد اهتمامهما. مثل هذا النمط من السلوك يستمر مع البشر طول حياتهم، إن لم نحصل على حاجة من سلوك، سنلجأ لسلوك آخر، وهكذا.

إذا لماذا يقوم الإنسان بأي سلوك من وجهة نظر مادية؟ الإجابة: نتيجة لحالته الكيميائية، الشروط العصبية الدماغية، بنيته الجينية، أولويات حاجاته البيولوجية، تأثير العوامل الخارجية … إلخ.

واختلاف السلوك هو اختلاف لما سبق، فالإنسان الذي بنيته تعطيه احتياجا للأهمية، وبيئته الخارجية منحلة قانونيا وتشجع العنف والإجرام، سيكون منجرا لتحقيق هذه الحاجة عن طريق العنف والسرقة والإجرام (الشر). أما ان كان نفسه في بيئة فيها قبضة للقانون، وينظر المجتمع للمجرم شذرا، فقد يكون مدفوعا لتحقيقها بطرق مقبولة اجتماعيا. كذلك من يحب الأمان قد يكون مسالما، ومن حاجته للتغيير والإثارة تفوق حاجة الأمان قد ينجر لأعمال متهورة … إلخ.

حتى اختلاف الأفراد في مجتمع واحد يرجع لأنه فعليا العوامل الداخلية والخارجية لا تتطابق أبدا في أي إنسانين حتى لو كانا توأمين متماثلين.

هناك العديد من الدراسات النفسية التي تعطي أدلة على ما سبق من طرح، على أن سلوك الإنسان (الخيّر في ظاهره) يتغير إلى ما نعتبره سلوك لا إنساني بتغير العوامل المؤثرة. من أشهر هذه الدراسات تجربة “سجن ستانفورد””Stanford Prison Experiment” التي قام بها الدكتور “فيليب زيمباردوا Philip Zimbardo” في عام 1971، والذي قام باختيار مجموعة من طلاب جامعة ستانفورد الجيدين الذين ليس لهم أي سلوك أو سجل سيء، وقام بتقسيمهم إلى مسجونين وسجانين لمحاكاة تأثير هذه الظروف على هؤلاء الطلاب. لقد اضطر الدكتور لإلغاء التجربة بعد عدة أيام بعد أن تغير سلوك المشاركين بشكل غير متوقع، وأصبح السجانون يضطهدون المسجونين، والمسجونون يثورون عليهم، لدرجة من العنف كادت ان تصل لمرحلة الإيذاء القاتل. الدكتور زيمباردوا ألف كتابا يتناول هذا المبدأ سماه “تأثير لوسيفر The Lucifer Effect” وفيه يتناول كيف أثر المحيط على الطلاب وغيّر سلوكهم، وأيضا حالات شبيهة مثل الجنود الذين كانوا في الولايات المتحدة الامريكية يعتبرون “خيّرين” وفيين لزوجاتهم عطوفين على حيواناتهم وجيرانهم، ثم أجرموا وتوحشوا في أبو غريب بالعراق، وقتلوا وانتهكوا الأطفال في أفغانستان، وغيرها من حالات يظهر فيها انسان “جيد” سلوكا شريرا.

تجربة سجن ستانفورد Stanford Prison Experimentتجربة سجن ستانفورد
Stanford Prison Experiment

هناك العديد من من التجارب النفسية المماثلة، مثل” تجربة ميلجرام Milgram Experiment ” والتي تبين أن معظم الناس قد يعرضون آخرين للخطر والموت تحت تأثير أمر أو شخصية سلطوية. وتجربة “الموجة الثالثة Third Wave” والتي تبين أنه حتى في نظام حر وديموقراطي وبأناس ذو سلوك وتربية جيدة، يمكن تحويل هؤلاء الأشخاص إلى فاشيين بتغيير الظروف المحيطة بهم.

وغير ذلك كثير.

تجربة ميلجرام Milgram Experimentتجربة ميلجرام
Milgram Experiment

الخلاصة: الإنسانية، الخيرية، المادية والدين

مما سبق، يتضح أن الإنسانية بمعنى العطاء والخيرية مع بني البشر دون مردود أناني، لا معنى لها في إعتقاد مادي إلحادي، لأن الإنسانية والخير وما إلى ذلك هي قيم مطلقة متجاوزة للكون والطبيعة، بينما كل قوانين وتفاعلات الطبيعة والإنسان هي مادية بحتة لأسباب طبيعية بحتة، فتكون الإنسانية وهم لا معنى له.

أيضا، في اعتقاد مادي، الإنسان مسير بقوانين الطبيعة والبيولوجيا والكيمياء والجينات والسيكولوجيا والظروف المحيطة، ولا توجد إرادة حرة حقيقية متجاوزة لهذه الامور المادية، فلا الخيّر خيّر بإرادته الحقيقية، ولا الشرير شرير بإرادته الحقيقية، فالتفضيل بين البشر بناء على السلوك لا معنى له لكون البشر لا يد لهم في سلوكهم. كل انسان يقوم بخير لغيره هو لسبب بيولوجي مادي أو نفسي أناني، وكل انسان يفعل فعلا سيئا لغيره يكون لنفس الأسباب.

فلا معنى للإنسانية والخير والشر وما إلى ذلك، إلا بنظرية دينية ألوهية للعالم، فوجود العالم المتجاوز للمادة، والقوة المكونة المتعالية على الطبيعة، هو ما يعني وجود حقائق، إنسانية، عدل، خير، وما إلى ذلك من معاني مطلقة متجاوزة للمادة.

ووجود طبيعة ثنائية للإنسان، الجسد والروح، هو الذي يجعل الإنسان ذا قدرة على أن يتسامى على تأثيرات الطبيعة والمادة والبيولوجيا والنفس والجينات، ويكون ذو حرية اختيار حقيقية.

وبهذا فقط من وجهة نظر دينية ألوهية يكون هناك معنى للإنسانية، ومعنى للإنسان الخيّر.

ومن نظرة ألوهية دينية، فالإنسان ولو كان ملحدا، يمكن أن يقوم بأفعال خيّرة، وذلك لأحد سببين:

– إما لكونه يستجيب للدوافع النفسية البيولوجية الشخصية داخله مع الظروف الخارجية.

– وإما لكونه مدفوعا بالفطرة الروحية ليحقق مفاهيم تتجاوز حدود المادة والإنسان كالخير والإنسانية.

لذلك يمكن أن يكون الملحد و المادي مناد للقيم المطلقة كالعدل والحرية والانسانية والخير، لكنه يكون يحمل معتقدين متناقضين بالأصل والتبعية، يستخدم احدهما في حين ( المادية: الإعتقاد بعدم وجود ما يتجاوز المادة، بالنسبية، بعدم وجود قيم مطلقة، بانانية وحتمية السلوك الإنساني) ويستخدم الآخر في حين آخر (الإنسانية: قيمة مطلقة متجاوزة للمادة، تفترض حرية الإختيار، والقدرة على التسامي على الدوافع المادية).

ويبقى سؤال مهم، لماذا يحتاج المادي المؤمن بكون عبثي، إلى الإعتقاد بمبدأ الإنسانية؟ في كون لا هدف له ولا غاية ويتصف بالعشوائية؟ الجواب هو إما انه وهم أناني ليعيش ويحقق حاجاته، او انه يوجد فعلا هدف وقيمة مطلقة يشعر بالرغبة في تحقيقها، والثانية لا تستقيم بفكر مادي إلحادي كما سبق.

وهكذا، يكون الدين والإيمان بالفلسفة الألوهية، هي المظلة الجامعة لكل القيم المتجاوزة للمادة، مثل الإنسانية والوطنية والخير للبشرية وغيرها، لأن هذه القيم لا تستقيم ولا يكون لها معنى عقلي حقيقي إلا تحت الدين الألوهي. وهكذا يكون الدين أعلى من الإنسانية والوطنية وغيرها، لأنها ما تستقيم به، ما تأخذ منه معناها، وما توجّه حقيقة به، لأن المعاني المتجاوزة للمادة المطلقة، لا ينظمها إلا نظام متجاوز للمادة مطلق، ألا وهو الدين، والإعتقاد بقوة مطلقة أكبر من الكون، وهو الخالق الكامل المطلق.

المنشورات: 1

المشاركون: 1

اقرأ كامل الموضوع