الأرض… قصة الموطن الأول

كتب @dania:

في مهدها كانت الأرض نارًا بدائية، كوكبًا ميتًا تقذفه النيران والمذنبات والكويكبات بشكل متواصل، وبدلًا من الماء كانت الحمم الحمراء (اللافا) المنصهرة تتدفق عبر سطح الكوكب والبراكين تنفث غازات سامة إلى الغلاف الجوي البدائي، ومن هذه المقدمات العنيفة خرج العالَم الذي نعيش به اليوم، فكيف مرت الأرض بكل هذا، وتحولت من جحيم متّقد إلى الكوكب الذي نعرفه ونحبه؟ من أرض نمشي عليها، وهواء نتنفسه، وماء يغطي ثلاث أرباع سطحه وأتاح ظهور الحياة عليه وتطورها إلى كائنات معقدة مثلي و مثلك. لكن العلم كشف بأن الأرض لم يصبح كوكبًا قابلًا للعيش إلا بعد سلسلة من الكوارث المدمرة.

ولشرح هذه السلسلة من الأحداث بصورة أكثر إيضاحًا، دعنا نتخيل بأن تاريخ الأرض المكون من 4.5 بليون سنة تم ضغطه ليشكل يومًا واحدًا مكونًا من (24 ساعةوعلى ساعتنا هذه التي تشير الآن إلى ال12 بعد منتصف الليل، فإن البشر بدؤوا يسيرون على الأرض منذ ثلاثين ثانية أي (5 ملايين سنةوبدأت الديناصورات بالتجوال على سطح الأرض قبل ساعة من الآن أي الساعة ال11 مساءً، وتطورت أول الحيوانات في الساعة التاسعة وخمس دقائق، وقبل هذا كانت أغلب الكائنات وحيدة الخلية موجودة ولكنها قبل ذلك مرت بمقدمات عظيمة عندما انفجرت نجوم قديمة ضخمة لتقابل نهاية عمرها.

هذه الانفجارات الجمة كانت بمثابة المطبخ التي أُعِدّت فيه كافة العناصر الكيميائية التي نعرفها اليوم؛ كالحديد والكربون والذهب، والعناصر المشعة كالراديوم، وبمرور الوقت سيطرت الجاذبية على الموقف وانهارت كتل غبار النجوم هذه على نفسها لتكون قرصًا دوارًا هائلًا، وفي مركز هذه الدوامة ارتفعت الحرارة وازداد الضغط، وفي نهاية الأمر انجرفت الغازات الخفيفة مثل الهيليوم والهيدروجين نحو أطراف القرص، وحبيبات التراب الأكثر كثافة تمركزت حول المحور لهذه الكتلة الضخمة لاحتوائها على المعادن فأخذت تصطدم ببعضها لتشكل كتلًا أكبر فأكبر، فيزداد حجمها تدريجيًا من ذرات تراب متناهية الحجم إلى حصىً صغيرة ثم إلى صخور، ومع كبر حجم الصخور تزداد الاصطدامات وكلما كبر حجمها أكثر ازدادت قوة جاذبيتها ليزداد التجاذب الكتلي فيما بينها لتشكل تجمعًا كرويًا –إن صح التعبير– بعرض ثمانية أمتار تقريبًا، ليكبر أحدها بعد ذلك أكثر من البقية ليصبح الثقل المركزي، ومن ثم تتحد لتشكل الكواكب الأربعة الأقرب للشمس (الزهرة وعطارد والمريخ والأرض).

5503ec2ad5e29

إن محاولة تخيل شكل الأرض قبل 24 ساعة على ساعتنا لمهمة صعبة جدًا؛ فالأرض كانت لا شيء سوا كرة من الصخور المنصهرة المغطاة بالحمم البركانية.

على بعد آلاف الكيلومترات من الأرض بين المريخ والمشتري توجد منطقة تدعى الحزام الكويكبي المحتوي على آلاف البلايين من الكويكبات والصخور الكثيفة المتبقية من عملية ولادة الكواكب، وتدور هذه الكويكبات في مداراتها، وبين الفينة والأخرى تخرج شظية منها عن مدارها وتنطلق في مسارها نحو الأرض ليتشكل فيما بعد ذلك المحيط الصخري السائل (اللافا) بسمك يتجاوز مئات الكيلومترات، ويُعتقد أن هذه الكتلة المنصهرة تسبح في الفضاء، وعندما نرى جسمًا منصهرًا كهذا فمن الطبيعي أن نجد بأن العناصر الأثقل مثل الحديد تغطس إلى مركزه، والمواد الأخف كالماء والكربون إلى أطرافه. هذه الهجرة الكوكبية المعروفة باسم الكارثة الحديدية سيكون لها تأثير عميق على مستقبل الكوكب؛ حيث أنّ تجمّع الحديد في مركز الأرض (ذلك القلب المنصهر الذي يبلغ حجمه ضعف حجم القمر) يسبب الحركة والتدويم والتدفق الدائم والذي ينتج ما نعرفه في يومنا هذا حركة التيارات الكهربائية، وهي السبب الرئيس لتحول كوكبنا إلى مغناطيس ضخم ذو قطبين شمالي وجنوبي. ولا يزال القلب في حركة مستمرة، ويمكننا أن نرى الدليل على هذه الحركة في تلك البقاع القاحلة الجليدية بكندا القطبية إذ يتذبذب المجال المغناطيسي من لحظة لأخرى.

وبدون القلب الحديدي المنصهر للأرض لَتعَثَّر ظهور الحياة؛ فهذه الدوامة من الحمم البركانية هي ما ينتج المجال المغناطيسي حول الأرض ونحن بحاجة إلى هذا المجال فهو بمثابة درع لحماية كوكبنا؛ ففي كل يوم تجابه الأرض سيلًا مميتًا من الجسيمات المشحونة كهربائيًا في طريقه لها بعدما تقذفها اللهب الشمسية الجبارة والتي تنطلق بسرعة 1.5 مليون كم/ساعة مكونة ما يُدعى الرياح الشمسية، فيعمل المجال على حماية الأرض وقذفها بعيدًا.

القطب الشمالي الجغرافي في مكانه ثابت ولكن القطب المغناطيسي دائمًا في حركة: عبر القرن الماضي تغير مكانه بشكل هائل، ويقوم الجيولوجي لاري نويت بقياس شدة واتجاه المجال المغناطيسي في ثمان مواقع مختلفة وهو ما يُعرف بالتثليث، إذ أن مكان القطب الشمالي المغناطيسي يصعُب تحديده بدقة لذا تتم محاصرة مكانه. وأظهرت المسوحات خلال ال200 عام الماضية بأن القطب تحرك بمقدار 200 كم عبر الساحل الكندي، كما لوحظ أن حركة القطب تزداد سرعتها بشكل مطّرد؛ فخلال القرن الماضي كان القطب ينزاح بمعدل 10 كم/سنة، ومنذ عام 1970 بدأت الحركة بالتسارع بمعدل 40 كم/ساعة، وبحسب التقديرات فإن القطب قد يصل إلى سيبيريا خلال ال50 عامًا القادمة.

وبعد 50 مليون عام –أي بعد مرور 16 دقيقة على توقيت ساعتنا الكونية من بعد منتصف الليل– انتهت الكارثة الحديدية، لكنه حتى بعد تشكل قلب الأرض والغلاف المغناطيسي فلا يزال الكوكب موحشًا وغريبًا، ونفثت البراكين سحبًا من الغازات السامة ليغشى الأرض غلاف من ثاني أكسيد الكربون الخانق والنيتروجين والدخان، وبلا طبقة الأوزون لحماية أرضنا من الإشعاع الشمسي أو الأكسجين للتنفس.

لم يكن هذا المكان ملائمًا للحياة بعد، ومن قلب هذا الخليط الجهنمي ولد القمر؛ إذ لاحظ العلماء أن كيمياء القمر متماثلة مع الأرض ومختلفة مع أي عينات أخرى من ذات المجموعة الشمسية إلا ان القمر أصغر عمرًا من الأرض، ومن هنا جاء العالم هارتمان بنظرية مثيرة للجدل في العام 1974 والتي اعتُبرت هرطقة علمية لتفسير تكون القمر بناء على الملاحظات الآنفة الذكر، فبما أن القمر يتكون من نفس المواد الكيميائية التي تكونت منها الأرض، وأن الارض تكونت على نفس البعد من الشمس، كان هناك جرم سماوي مكون من نفس مادة الأرض تضخم حجمه قبل أن يصطدم بالأرض، فافترض أنه على بعد 50 مليون عام من تكون الأرض كان هناك كويكبًا ضخمًا لا يزال يتجول عبر النظام الشمسي واصطدم بكوكبنا، طاقة الاصطدام هذه كانت كفيلة بأن تصهر الطبقات الخارجية للأرض والكويكب، والتحم الاثنان ليكونا أرضًا جديدة كبيرة، وفي نفس الوقت قذف هذا التصادم الهائل بكمية ضخمة من الصخر المنصهر نحو مدار الأرض ليلتحم هذا الركام فيما بعد ويكون القمر.

بعد عشر سنوات أُخذت الفكرة محمل الجد: وذلك بعد استخدام أنظمة المحاكاة في الحواسيب ليحظى نموذج هارتمان بقبول عام.

ظهر القمر بعد 50 مليون سنة من ظهور أرضنا في مدار أقرب للأرض ب350 كم من مداره الحالي، إذ بدا في السماء أكبر بأضعاف وأضعاف، وكانت الأرض تدور حول نفسها وقتئذٍ إذ كان اليوم أقل من 6 ساعات، وكان القمر قريبًا جدًا وتأثير جذبه على الأرض هائلًا. ارتفع سطح القمر وهبط 60 مترًا أثناء أطوار القمر المختلفة، وبمرور الوقت بطُؤت دورة الأرض حول نفسها، وبعُد القمر وهي عملية تستمر حتى يومنا هذا، كما تبين باستخدام عاكسات الليزر من على سطح الأرض إلى القمر وعودته من حيث أتى، حيث نُصب ليزر قوي قادر على استهداف العاكس الذي وضع على القمر. وفي عام 1969 تم لأول مرة قياس الزمن اللازم لوصول شعاع الليزر إلى القمر والاصطدام بالعاكس والعودة إلى الأرض مدة استغرقت 2.5 ثانية، وبالقيام بالتجربة من عام لآخر تمكن التأكد بأن القمر يتحرك فعلًا بمعدل 3 سم/عام.

الاصطدام الذي خلق القمر كان ضربة موفقة للأرض، حيث كان جَسيمًا لدرجة أنه أجبر محور الأرض على الانحراف بعيدًا عن موازاة محور الشمس مما يسبب الفصول الموسمية، ولولا هذا الميلان لتعرض الكوكب اليوم لدورات مناخية شرسة.

أما بالنسبة لظهور الماء على الكوكب، فأحد الاقتراحات أنها كانت موجودة منذ البداية لكنها كانت مخفية، إذ أن البراكين في مرحلة طفولة الأرض نفثت كميات هائلة من البخار إلى الغلاف الجوي، وبعدما بردت الأرض تكثف هذا البخار على صورة أمطار، وقطرة بعد أخرى تجمّعت هذه المياه في الأراضي المنخفضة. ومشكلة هذه النظرية تتمثل ببطء حدوثها، فتجمّع المياه على سطح الأرض بهذا الكم الهائل عن طريق الأمطار يعد في حد ذاته عملية صعبة.

بينما يعتقد علماء آخرون بأن الأرض تلَقَّت المساعدة الخارجية على هيئة كتل جليدية وصلت إليه. مشكلة هذه النظرية تظهر جليّة من خلال تحليل العناصر الكيميائية لمكونات مياه الغلاف الجوي والمذنبات؛ إذ تبين أنه يوجد نوعين من المياه: المياه العادية (H2O) والمياه الثقيلة (HDO) والتي بها نيوترون زائد، وبمقارنة النسب بين مياه المحيطات والمذنبات نجد أن المحيطات تحوي على خليط مكون من الماء العادي وكمية قليلة من الماء الثقيل، أما في المذنبات التي تم تحليلها إلى الآن فإنها تحوي كمية من المياه الثقيلة تعادل ضعف الكمية التي وجدت في مياه المحيطات التي وجدت على سطح الأرض.

علينا أن ندرك ختامًا أن الأرض الفتية كانت مختلفة بصورة جذرية عن أرضنا التي نعيش عليها اليوم، حيث أنها كانت مكانًا عدائيًا محاطًا بغلاف جوي مليء بالغازات السامة، وخلال هذه السلسة من التغيرات –والتي كانت لزامًا عليها أن تمر بها على صورة كوارث هائلة– التي مهدت إلى تحول الأرض لأكبر مسرح درامي جاهز لأعظم عرض على مر العصور، ظهور الحياة.

المراجع:

– الأصول: كيف نشأت الأرض؟

– سلسلة الكون.

المنشورات: 1

المشاركون: 1

اقرأ كامل الموضوع